الناس كالأنهار

TT

كان هتلر يعتبر البولنديين «من فصيلة الصراصير». الذين «لا حق لهم في الحياة إلا كعبيد للألمان». لذلك يقول المؤرخ كلاوس فيشر: إنه في وجه هذا القمع الوحشي، الذي أدير في البداية بنجاح، كان لا بد أن تقوم مقاومة شرسة بين الضعفاء. وكان هتلر يؤمن بإبادة الشعوب وتدمير مدن مثل موسكو ولينينغراد لإقامة مدن أكثر تقدما مكانها.

لا أدري إن كانت قد نشأت من هنا مدرسة الجرذان والجراثيم والكلاب الضالة، أو مدرسة إقامة المدن الجديدة والتهجير القسري كما في رومانيا شاوشيسكو وفي الأهوار وفي الشيشان وفي صين ماو. لكن جميع هذه المدارس انتهت مهزومة أمام ضحاياها، ولو بعد حين. ليس المقصود فقط النموذج الليبي، الذي هو الأحدث، ولكن أيضا المصير الذي انتهت إليه أعتى موجات فاشية عنصرية في التاريخ، كالنازية والسوفياتية، وقبلها المد العنصري الياباني، وهو تاريخ عامر بالإجرام، لا تكف طوكيو عن الاعتذار عنه، للصينيين والروس والكوريين. عندما بدأ هتلر الحملة على روسيا، وقف عدد من الشعوب المتذمرة من السوفيات إلى جانبه. كانوا مأخوذين بالنازية التي سوف تخلصهم من الحكم السوفياتي. لكن هتلر لم يكن يريد ولاءهم. كان يريد أرضا بلا شعب يضمها إلى «مجال ألمانيا الحيوي». لذلك أباد الأوكرانيين والبولنديين بالملايين. وهكذا ارتدوا عليه وقاوموا إلى جانب الروس. في اللحظة السانحة عادوا فتخلوا عن السوفيات. فالقهر لا يطاق، سواء كان نازيا أو شيوعيا. لم يطق فقراء الهند تعالي البريطانيين. ولم يطق الجزائريون الحكم الفرنسي برغم كل وعوده. «الربيع العربي» ليس ثورة آيديولوجية تطرح نظاما جديدا وفكرا جديدا. ليس سوى موجة من الانعتاق في وجه موجة من العبودية. المقاومة الفرنسية رفضت الاحتلال الألماني، لكنها رفضت أيضا الجنوح الوطني نحو العسكريتاريا. واليونان التي خاضت حربا أهلية وقفت موحدة ضد الديكتاتورية العسكرية.

تنجح القوة في حكم الضعفاء زمنا ما، ثم تتهاوى أمام ضعفهم: الكتلة السوفياتية، الصين، العراق، والآن ليبيا، والإمبراطوريات من روما إلى أميركا، تبدو إمبراطوريات الداخل، وإمبراطوريات الداخل محصنة مثل القلاع: جدران سميكة عالية ونوافذ صغيرة وحرس على كل الجهات، ومن حول ذلك كله نهر عميق.

ثم يصرخ صوت واحد من بعيد ويلحق به جميع الساكنين في أودية الصمت وسهول الخوف. الناس كالنهر، يقول زكي نجيب محمود، هي نفسها، لكن مياه اليوم ليست مياه الأمس.