ثوراتنا تشبه بيوتنا

TT

في بيوت الطبقة الوسطى في مصر كل ما يظنه المصريون علامات البيت الحديث بأثاثه ومسمياته - الصالون والإنتريه والنيش إلى آخر هذه المؤشرات التي تشير إلى تحضر صاحب المسكن - ولكن ما ألف نظري دائما هو أن المصريين ورغم وجود غرفة الطعام أو السفرة بأثاثاتها الشيك من ملاعق وشوك وكؤوس وأطباق فاخرة فإنهم لا يأكلون في غرفة الطعام ولا يستخدمون ما اشتروه من أدوات - غرفة الطعام بكل ما فيها من مفاخر هي للعرض فقط وليست للاستعمال، يستخدمها المصريون عندما يكون عندهم ضيف غريب، والغريب بمعنى أنه قادم من بعيد من حيث المكان والمكانة ونريد أن نبهره بما لدينا من رمزيات التقدم والعصرنة - ولا تقرأ الأخيرة خطا.

هكذا كانت الثورة أيضا للعرض فقط وليس للاستعمال الشخصي، ثورتنا في مصر تشبه بيوتنا؛ صالونات فاخرة بآلاف الجنيهات ونيش وسفرة وكلها للعرض للغريب القادم من علٍ مكانا ومكانة.

لذلك نجد أن المصريين وصلوا لحالة تقريبا مرضية فيما يخص الغرباء عن ثورتنا وكان مدهشا ومضحكا في آن أن أرى كلمات الرئيس الأميركي باراك أوباما تتصدر صالات السفر في مطار القاهرة الدولي وكذلك كلمات برلسكوني، وكأن هناك في هذا العالم من يرى أن ما يقوله برلسكوني نوع من الحكمة - ليس مهما بالنسبة للمصريين أن برلسكوني أضحوكة العالم المتحضر - المهم بالنسبة لنا أن الغريب أو الخواجة فوق كل هذا أثنى على ثورتنا وليس مهما من يكون هذا الغريب.

الحال نفسه عندما يزور زائر بيوتنا فكمصريين لا نهدأ حتى يقول لنا الضيف رأيه في الأكل وفي السفرة وفي البيت والأثاث كله ونلف وندور حول الضيف بأسئلة نظنها ركيكة أو على الأقل غير فجة أو شديدة المباشرة، نظنها تلميحا رغم اقترابها من التصريح الفاضح، نريد رأيا آخر في ذوقنا في البيوت وفي الثورة، وكما نغطي أثاث الصالون والسفرة لشهور لحين قدوم ضيف ونأكل نحن في غرفة المعيشة وأحيانا في غرفة النوم أيضا غطينا الثورة وجعلناها كما النيش والصالون فقط للعرض وليس للاستعمال.

قمنا بثورة للعرض، ثورة من أعظم الثورات حيث امتلأت الميادين بالبشر، وصورتنا كل كاميرات العالم ونحن نرفع لافتات المعارضة المطرزة بما نظنه خفة الدم المصرية وهي سمة للعرض أيضا، فالبلد في سلوكه اليومي وكذلك سلوك الحكومة «دمهم تقيل جدا» في الواقع. المهم أن الثورة التي نحتفظ بها للعرض ويسافر بعض مقاولي الثورة للحديث عنها في الغرب غير الثورة «استعمال مصريين» أي إن الثورة «بتاعة غرفة المعيشة» غير الثورة «بتاعة الصالون».

ما أريد قوله أن ثوراتنا تشبهنا وكذلك حكامنا ونشطاؤنا، فالمجلس العسكري في مصر يشبه مصر وسلوكه سلوك كل المصريين، فلا يجب أن نتوقع منه أكثر مما نتوقع من جيراننا في الحي أو الحارة، فهو يركز على مصلحته أولا. فالمصري يهتم بنظافة بيته «الذي هو للعرض أيضا» ولكن يلقي بالزبالة في المكان العام، الخاص نظيف والعام مقلب للنفايات، أي إن المجال الخاص فيه من الذوق الكثير، أما المجال العام أو السياسة فهي مقلب للنفايات اللفظية على الشاشات وعلى صفحات الصحف. بعد الثورة كنت ماشيا في السيدة زينب مع مجموعة من الأصدقاء بينهم مخرج تلفزيوني شاب من شباب الثورة، ورأينا رجلا تبدو عليه ملامح الطبقة الوسطى يلبس بدلة ويبدو عليه الوقار يحمل في يده زجاجة خضراء مشى بها من المطعم لعدة خطوات وظننت أنه سيلقيها في مكان مخصص للزبالة وتعجلت في الحكم وقلت لأصدقائي البلد اتغيرت، انظروا إلى هذا الرجل يحمل قنينة المياه ولا يريد أن يلقي بها في الشارع كما كان الوضع في السابق، ومشى الرجل حتى وصل إلى أقرب مكان للقمامة وألقى بالزجاجة، فأخطأت السلة ونزلت إلى جوارها، وذهبت إلى المكان من بعده، فرأيت عشرات الزجاجات ومئات الخرق القديمة والأوراق، كلها على ما يبدو أخطأت السلة وكونت إلى جوارها مقلبا عفنا للنفايات، وقال المخرج الشاب «دي مصر بعد الثورة». بالفعل هناك سلة قمامة، ولكن الجميع ورغم المحاولة بعد الثورة أخطأ السلة ولم يتعب نفسه في محاولة ثانية، وبذلك أنتج لنا كومة من القمامة القبيحة إلى جوارها.

الانتخابات البرلمانية والدوائر الانتخابية كلها ملامح توحي بأن مصر تتجه نحو الحداثة السياسية، ولكن الناس هم نفس الناس، الوجوه هي ذات الوجوه، منين أجيب ناس. المصريون «هما هما»، كما نقول، فلماذا نخلق هذه الأوهام عن دولة ديمقراطية وعن دستور عصري، ونحن ذات الناس، فقط من لديه شك يستمع إلى إذاعاتنا وتلفزيوناتنا ويقرأ صحفنا، ليعرف أن الثورة في مصر تشبه بيوتنا، صالون جميل ونيش وغرفة طعام، كلها لا تستعمل، هي ليتفرج عليها الضيوف أي للعرض فقط.

لو كانت لدي نصيحة للمصريين أقول لهم استعملوا ثورتكم، ولا تغطوها حتى يأتي الغرباء ليأكلوا عليها كما تفعلون بحجرة السفرة في بيوتكم، فالثورة المستعملة أفضل مائة مرة من الثورة «الجديدة لنج» المغطاة في البيت. المصري لا يستخدم نصف بيته، ويحتفظ به للضيوف الذين يأتون مرة كل عام، والمصريون لا يستخدمون حتى الآن نصف ثورتهم، نصف الثورة معطل من أجل «الفرجة للغريب». أما نصفها الثاني فهو في حجرة المعيشة، وفلول النظام القديم هم المسيطرون على حجرة المعيشة. الأمر لا يخص مصر وحدها، فثورة سوريا تشبه البيت السوري، وكذلك ثورة ليبيا التي أتمنى أن البيت الليبي لا يشبهها، وثورة اليمن تشبه بيوت اليمن. استخدموا كل مساحات بيوتكم من أجل أنفسكم وليس من أجل الضيوف القادمين للفرجة، وكذلك استخدموا كل ثوراتكم، ذلك أفضل لكم.