مستبدون ومثقفون: السلطة والغرب

TT

لا يعشي طول المكث في السلطة الغاشمة إلا بقدر ما يعمي طول الطموح إليها.. هذا ما يحكيه الواقع العربي اليوم في دول الاحتجاجات العربية. إن طول المكث في السلطة الغاشمة أعشى أعين المستبدين كصدام والقذافي والأسد وصالح، وطول الطموح إليها أعمى تيارات المعارضة عن أي شيء آخر، وحين حانت ساعة الاضطراب الكبرى غابوا عن الوعي بالواقع وشروطه وإمكاناته، فغيّب الحكام طول المكث الغاشم والعجز عن التطوير، وغيب المعارضين طول الطموح، ولما جاءت لحظة الحسم تناثر المشهد العربي بكل المتناقضات.

حكام خارج الواقع، ومعارضون خارج المنطق، ومثقفون خارج الوعي.. أما الحكام خارج الواقع الذين لم تعشهم السلطة وحدها بل كان معها تاريخهم السياسي وثقافتهم الحزبية، مع رؤيتهم الخاطئة لموازين القوى الداخلية والخارجية، فمنعهم كل ذلك من رؤية الواقع كما هو والمشهد بكل معطياته، بمعنى أن أذهانهم كانت مغيبة عن إدراك المتغيرات، فضلا عن الكيفية الأفضل للتعامل معها.

ففي العراق، كان صدام على مدى عقود يغرق في سلطته، وحين جاءت لحظة الحسم وتغيير السياسة لم ينتبه لذلك، ولم يوقظه لا الحصار ولا التحالف الدولي ضده، وبالتأكيد لم تفعل الحرب (2003)، وكانت النتيجة أن أخرج راغما من بغداد، وفقد السلطة، وشُرد أهله، وقتل ابناه، وكان كامل الاقتناع في حفرة ما على شاطئ النهر بأنه قادر على قيادة المقاومة ضد المحتل الأجنبي، وهزيمته وطرده.

كذلك كان القذافي بكل ألقابه الطويلة ممتلئا قناعة بأنه أبو الثورات في العالم، وخالق النظرية الجماهيرية الجديدة، ومؤلف الكتب ذات الألوان، وحين قامت الاحتجاجات ضده لم يعرها اهتماما، وشمت بها، وكاد يقضي عليها، لكن تدخل الناتو والمجتمع الدولي قلب الموازين، وفي تلك اللحظة لم يدرك حجم التغيير الذي حصل، وحتى حين أخرج من طرابلس وفقد السلطة وشُردت عائلته، وقتل بعض أبنائه، فقد كان كامل القناعة في مكان ما من سرت بأنه سيقود المقاومة ضد المستعمر، وسيخرجه ذليلا.

في سوريا أعمى عقد السلطة الغاشمة الأسد، كما أعشاه تحويل علاقته بإيران من التحالف إلى التبعية، والمكاسب الصغيرة التي حصّلها في العراق ولبنان وغزة جراء تلك التبعية عن القدرة على التعامل مع مشهد جديد بالكامل، وعندما تحين لحظة الحسم فلئن لم يجد فرصة للفرار إلى إيران فإن مصيره لن يكون أفضل من سابقيه.

ربما بدا أن الرئيس صالح في اليمن يمثل مسارا مختلفا، لعوامل عدة، لكن دهاءه التكتيكي الذي عرف به، وقدرته على التلاعب وإدارة الصراعات، قد يخونانه عند لحظة الحسم، وهو حين يعشى عن المبادرة الخليجية ويمارس معها مهارته التكتيكية، فإنه يعمى عن رؤية المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، وهو ما سيدفع ثمنه غاليا.

أما المعارضون العرب الذين تشملهم أطياف أشهرها القوميون واليسار، فإنهم خارج المنطق، وهم مذبذبون في مواقفهم، فحينا يفرحون بالاحتجاجات، وحينا يذمونها، وحينا يخشون نتائجها، وحينا يوافقون على أي شيء غير الأنظمة التي كانت. وهم بهذا عكس الإسلاميين الذين يعيشون عرسا.

يمكن توصيف اللحظة الراهنة بأنها «حيرة القوميين»، فالرفاق حائرون، بعضهم بلا معلومات، وبعضهم بلا رؤية، وبعضهم خارج التاريخ. يتساءلون: هل أصبح محمد حسنين هيكل مجرد هيكل؟ وقل مثل هذا في اليسار. وهو ما يجعل من الممكن هنا الحديث عن نوع من الشتات بين المعارضات التقليدية في تلك البلدان، وتحديدا بين القوميين واليسار من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى، أولئك الذين كانت تجمعهم المعارضة وصخبها وضوضاؤها، وفي لحظة الفوضى كان يجمعهم الحماس والنشاط، وفي لحظة الطريق إلى الحكم بدأ يفرقهم الطموح المتناقض والولاءات السياسية المتعارضة، وكذلك التاريخ الذي كانوا يحسبونه مشتركا، وذلك منذ كان هيكل يشيد بإسلامي علمه في السجن كيف يغتسل بكوب ماء في كتابه «خريف الغضب» الذي كتبه ليشتم فيه السادات وحتى اللحظة الراهنة. لقد كان عداء السلطة جامعا لهم، وحين سقطت تفرقوا، وتفشت الأوهام، وعشيت الرؤية.

غير معارضة السلطة أو معاداتها فإن ثمة نهجا ثابتا آخر لدى كثير من المثقفين العرب، قوميين ويسارا وإسلاميين، تجاه الغرب.. إنهم من جهة يكرهونه كرها آيديولوجيا، ومن جهة أخرى لا يمانعون في التواصل معه حين يخدمهم ذلك. وهم يتأرجحون بين الموقفين، مع استحضار أن منطق الآيديولوجيا والخطاب والمفاهيم التي يتبنون جاءت من الغرب، وبنية التنظيمات التي ينتسبون إليها وأساليبها وطرائقها جاءت من الغرب كذلك.

أحيانا، ومن خلال منطق المحاججة لخصومهم، يفتشون عن أي غربي قال فكرة تناسبهم في ظرف ما، ثم يتكئون عليها بقوة إما بدافع المساجلة وإما بدافع الإقرار الخفي بالتفوق، وقد عبروا عن هذا بطريقين.. الأول: الإشادة بما ومن يوافقهم من خلال ترجمة كتب أو نقل مقالات أو ترويج أفكارٍ. والثاني: الرفض وذلك عبر إصدار الكتب المخالفة أو ترويج الأفكار المعارضة والتعبير عن ذلك بكل الوسائل من كتب ومقالات ومواقع إلكترونية وفتاوى وخطب وغيرها.

بسبب عداء المثقفين الآيديولوجي المذكور أعلاه للغرب فإنهم حين وجدوا الثوار على الأرض قد فرحوا بدعم الغرب لهم في ميدان التحرير حين طالب برحيل مبارك «الآن» و«فورا»، وحين سمعوا المسلحين الإسلاميين في ليبيا يشكرون قوات الناتو، وحين رأوا المحتجين في سوريا يطالبون بحماية الغرب، حينذاك فشل أكثر أولئك المثقفين في تطوير موقفهم أو إعادة قراءته ونقده وإصلاحه، والخروج برؤية جديدة متماسكة. إن الآيديولوجيا تعمي كما السلطة الغاشمة تماما.

ثمة ظاهرة مرتبطة بهذا السياق وهي ما يمكن توصيفه بمحاولة تضليل مزدوج للغرب وبخاصة أميركا.. الأول: تجاه العالم الإسلامي، وأن المذهب الشيعي هو مذهب الأقلية الديمقراطية التي تواجه الأكثرية السنية المستبدة. قارن بكتاب فالي نصر «صحوة الشيعة»، وكتابات حامد كازار، وبعض المثقفين الغربيين. والثاني: تجاه الملكيات والجمهوريات في العالم العربي، وأن الأولى تعبر عن الاستبداد بعكس الثانية، بينما كل تفاصيل التاريخ الحديث تنطق بالعكس تماما.