لبنان وتحدي «الربيع العربي»

TT

لبنان كله منهمك اليوم بترشيح مغارة جعيتا الطبيعية لتبوء موقعها المستحق على لائحة عجائب الدنيا السبع.

أي لبناني يعرف مغارة جعيتا لا يشك في أهليتها لأن تصنف بين عجائب الدنيا السبع، ولكن اللبنانيين نسوا أن من سبقها إلى هذا الموقع هو لبنان نفسه.

لو رشح اللبنانيون بلدهم كله لأن يدرج على قائمة عجائب الكون السبع، لما لاقوا منافسا دوليا واحدا له، «مغارته» السياسية أدهش بكثير من مغارة جعيتا.

بلد أخفق في أن يتحول إلى وطن لجميع أبنائه، وعجز عن أن يصبح دولة بالحد الأدنى للدولة العصرية بعد نحو سبعة عقود على استقلاله.. ألا يستحق أن يكون أعجوبة زمانه ومكانه؟

بلد يتصرف الكثير من أحزابه كوكلاء علنيين لأجهزة استخبارات خارجية.. ألا يستحق أن يكون أعجوبة عصره؟

بلد يتباهى الكثير من سياسييه بتبعيتهم لجهات أجنبية، ويرفعون مفهومهم للعمالة إلى مستوى الالتزام «العقائدي» بسياسات لا علاقة مصلحية للبنان بها.. ألا يستحق أن يكون أعجوبة الأعاجيب؟

بلد يطبق أسوأ أنظمة «الأبارتايد» في القرن الحادي والعشرين - نظام التفاوت في الحقوق والتساوي في الواجبات بحكم الولادة (أي الانتماء المذهبي) – ويدعي في الوقت نفسه الالتزام بالمبادئ الديمقراطية.. ألا يستحق أن يكون مثالا لعجائب الدنيا السبع؟

ولكن أعجب عجائب لبنان أن يبقى اليوم على حاله وجواره العربي يشهد «ربيعا» يبشر بقيام ديمقراطيات قد تسلب لبنان الميزة السياسية التي تفرد بها في محيطه العربي: النظام الديمقراطي الدائم الحضور، على الرغم من هشاشته وعقده وعثراته الداخلية والخارجية.

من المبكر بعد التبشير بربيع عربي واعد يرسي قواعد التعددية والحرية والمساواة، في مجتمعات ترعرعت في أجواء أوتوقراطية خلفت بصمات ثقيلة داخل مكوناتها، ولكن بوادر هذا الربيع تلوح اليوم على الساحة العربية: تونس أنجزت أول استحقاق انتخابي نزيه، وجاءت نتائجه لتؤكد الطابع التعددي لمجتمعها. ومصر تستعد لإجراء أول انتخابات حرة لبرلمان تعددي يضع دستورا جديدا يمهد لانتخاب ديمقراطي لرئيس الدولة. وليبيا، التي تخلصت من رواسب أسوأ ديكتاتورية مزاجية عرفها العالم منذ نيرون، تتهيأ بدورها لدخول مرحلة الحكم المنتخب مباشرة من الشعب.

رغم هذه الخلفية الواعدة لأجواء الديمقراطية في العالم العربي يبقى المحك الحقيقي لمستقبلها مدى تأقلم التيارات الإسلامية معها. وعلى هذا الصعيد قد تقدم تونس التجربة الأولية لاحتمالات تعايش تيار إسلامي معتدل - يمثله حزب النهضة – مع اللعبة الديمقراطية في مجتمعه، علما أنه بقدر ما تتجذر التجربة الديمقراطية في التربة العربية، تتحول إلى ضمانة ذاتية للتعددية في مجتمعها، بحكم اضطرار الأحزاب الإسلامية لمنافسة الأحزاب الليبرالية والعلمانية، على كسب ود الناخب وصوته.

ثلاث دول عربية أفريقية مرشحة، في حال نجاح تجربتها النامية، لأن تتحدى أقدم الديمقراطيات العربية – الديمقراطية اللبنانية – في مفاهيمها الديمقراطية، عوض أن تستلهمها في مسيرتها المستجدة.

مؤسف أن ينطلق الربيع العربي و«لبنان – الرسالة» غارق في خريف ديمقراطية أخنى عليها الذي أخنى على لبد: سياسيوه يتلهون بالصغائر ويختلفون على «التوجهات» الإقليمية، غافلين عن أبعاد ما قد تتمخض عنه انتفاضة شعوب المنطقة، غاضين النظر عن تداعياتها المحتملة على نظامهم الديمقراطي – الرائد في زمانه والبائد في حاضره – بينما المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة تحسين الديمقراطية اللبنانية وتحصينها معا.

قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: من أين نبدأ؟

ربما لا تزال البداية الأنسب «طاولة الحوار» التي دعا إلى عقدها، من جديد، الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، شريطة أن تضم، إلى جانب القيادات السياسية، نخبة من المشرعين والأكاديميين، لتتحول إلى «هيئة تأسيسية» تضع أسس جمهورية كل اللبنانيين، المتساوين في الحقوق كما في الواجبات، ليعود لبنان الدولة العربية الرائدة ليس بديمقراطيتها فحسب، ولكن بعلمانيتها أيضا.