مسرح اللامعقول

TT

في القرن الثامن عشر كان الأدب الرومانسي والمسرح الرومانسي هما السائدين واستمر ذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر ومنذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن العشرين ساد الأدب الواقعي والمسرح الواقعي ومنذ ذلك الوقت ولفترة قصيرة ظهر ما يمكن أن نسميه المسرح العبثي أو مسرح اللامعقول. وفي هذه الفترة كتب فناننا العظيم توفيق الحكيم رواية «يا طالع الشجرة» محاولة منه للإسهام في تلك الموجة الفنية التي سرعان ما انحسرت والتي يبدو أنها للأسف بدأت تزحف بعنف على المسرح السياسي المصري في هذه الأيام التي أعقبت أملا في ربيع مصري سرعان ما توارى وترك وراءه غيوما وضبابا وعدم وضوح في رؤية أي شيء وكل شيء.

نظرة عابرة على عناوين الصحف المصرية توحي بهذا العبث الذي بدأ يضرب في جذور حياتنا حتى إنه بات يهدد سلطة كانت أرسخ وأقوى السلطات استقرارا واحتراما منذ أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين وحتى سنوات أو حتى شهور؛ قليلة تلكم هي السلطة القضائية.

كانت السلطة التشريعية مهترئة يتقدمها التزوير ويحيط بها التضليل وكانت السلطة التنفيذية هي سلطة الرجل الواحد الفرد الذي يتحكم في كل شيء ومع ذلك بقيت السلطة القضائية ملاذا آمنا للناس إلى أن سمعنا في الأيام الأخيرة عجبا من العجب. سمعنا أبواب المحاكم قد أغلقت أمام المتقاضين. ومن الذي أغلقها؟ يقال إنهم محامون. هكذا يقال.

المحامون الذي يقال عنهم القضاء الواقف والذين هم جزء أساسي من إدارة العدالة يغلقون بأيديهم دور العدالة. وأصبحت لا ترى دور المحاكم إلا وهي محاصرة بجموع من الناس لا تعرف هويتهم يمنعون القضاة والمتقاضين من الدخول وبذلك يهدمون ركنا أساسيا من أركان الدولة ذلكم هو ركن إقامة العدل الذي قيل عنه في أدبياتنا إن العدل أساس الملك.

ولا يقتصر العبث على هذا الأمر الخطير والشائن وحده وإنما تقرأ على الصفحات الأولى من الصحف عناوين تقول «الداخلية تحاصر الداخلية». إشارة إلى أن أمناء الشرطة - وهم من رجال الأمن التابعين لوزارة الداخلية - يحاصرون وزارة الداخلية لكي يفرضوا على الدولة تلبية مطالبهم سواء كانت عادلة أو غير عادلة. هل هناك عبث بعد هذا العبث؟

نعم هناك أنواع أخرى من العبث تتضح بأجلى مظاهرها في المسرح السياسي هذه الأيام.

لا أحد يجادل في أن أملا حقيقيا قد بزغ في سماء مصر في الأيام الأخيرة من يناير الماضي وعلى مدى قرابة شهرين بعده.

ثم بدأت الأمور تضطرب بعد ذلك ليس نتيجة سوء نية أو قصد وإنما نتيجة عدم إدراك لبديهيات القواعد الدستورية ونتيجة اللجوء لغير المختصين.

نقول ويقول غيرنا في فقه القانون الدستوري إن السلطات في الدولة تأتي في مقدمتها وتسبق غيرها من السلطات ما نسميه في ذلك الفقه «السلطة المؤسِّسة أو السلطة المنشئة» أي السلطة التي تؤسس غيرها من سلطات الدولة وتنشئها.

هذه السلطة بطبيعة الأمور تأتي أولا وتتمثل في الإرادة الشعبية التي تضع الدستور الحاكم للبلاد والذي يحدد بدوره السلطات الأخرى - المنشأة أو المؤسَّسة - وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وذلك كله وفقا للمبادئ التي نصت عليها الوثيقة الدستورية التي أقرتها السلطة الأصلية المؤسِّسة أو المنشئة.

لم نشأ أن نسلك هذا الطريق المنطقي وسلكنا طريقا آخر يضع العجلة قبل الحصان. يأتي بالسلطات التي تلي في الترتيب قبل السلطة التي تسبق في الترتيب بحكم المنطق القانوني السليم. وبعد ذلك وقبل الدستور الذي يرسي الأسس التي تبنى عليها التفاصيل نبدأ في وضع تفاصيل العملية السياسية. الانتخابات وهي تجرى بنظام القائمة أو بالنظام الفردي أو بالجمع بينهما. وكيف يكون ذلك. ونعدل ثم نغير ثم نعدل مرة أخرى لأنه لا توجد بوصلة هادية، وإنما ترتجل الأمور ارتجالا. وتتكون مئات الأحزاب ومئات الائتلافات وتلتقي أحزاب في كتل وتنفض الكتل ثم تتشكل من جديد ثم تختلف والناخب أو من يفترض أنه الناخب يقف مذهولا أو شبه مذهول في مواجهة مسرح اللامعقول العبثي الذي يمر أمامه والذي يتغير في الأربع والعشرين ساعة عدة مرات.

صحيح هي فترة انتقالية ولكن كان يمكن أن تكون هذه الفترة أكثر جدوى وأقل إيلاما وتقدما لو أننا اهتدينا بالمنطق السليم وفعلنا كما فعلت تونس مثلا وليس عندها الميراث الدستوري الذي نملكه وليس عندها أيضا من فقهاء القانون الدستوري من يضارعون زملاءهم المصريين بحكم الأوضاع التاريخية والأكاديمية وليس بميزة ذاتية.

وأقف أمام المنظر العبثي محزونا وأكاد أجزم نتيجة ذلك كله أن مجلس الشعب القادم ستكون فيه أغلبية من اتجاه معين وإلى جوار هذه الأغلبية - غير المطلقة - ستكون هناك كتل صغيرة غير مؤثرة ثم أفراد متناثرون لا يجمع بينهم جامع.. وهكذا سيفتقد هذا المجلس التناغم أو حتى التناسق وسيأتي ما سيصدر عنه من جمعية تأسيسية ومن قوانين على غراره من عدم التناسق والاضطراب.

إنني أقف أمام هذا المنظر العبثي محزونا وأكاد أجزم نتيجة ذلك كله أن الدستور القادم والمجلس القادم والرئيس القادم لن يتجاوز عمرهم عامين ثم ندخل في تجارب أخرى مؤلمة جديدة.