لعبة المركز والأقاليم في العراق

TT

تعود قضية الأقاليم في العراق للبروز مجددا مع إعلان مجلس محافظة صلاح الدين عن سعيه لتحويل المحافظة إلى إقليم، وتلويح العديد من السياسيين في محافظات أخرى كالأنبار والموصل برغبتهم في تبني الاتجاه ذاته. تطفو هذه القضية إلى السطح على خلفية ثلاثة أحداث، الأول والأهم هو الإعلان عن قرار سحب كل القوات الأميركية من العراق بحلول نهاية هذا العام، مما يعني نهاية الدور الأميركي كطرف ضامن للنظام السياسي العراقي وللتوازنات الداخلية بين أطرافه، والحدث الثاني هو قيام وزارة التعليم العالي بإحالة عدد من الأساتذة والموظفين الجامعيين إلى التقاعد، مبررة ذلك بشمولهم بإجراءات اجتثاث «البعث»، وهو ما رفضته محافظة صلاح الدين، والحدث الثالث هو قيام القوات الأمنية العراقية بحملة اعتقالات شملت مئات الأشخاص من المتهمين بالارتباط بحزب البعث والاشتراك في مؤامرة لزعزعة الأمن بعد رحيل القوات الأميركية.

غير أن هذه الأحداث جميعا ليست هي السبب الرئيسي لتصاعد التوجه الإقليموي في المحافظات نفسها التي صوتت ضد الدستور الراهن، لأنه تضمن بشكل خاص مواد تتعلق بالفيدرالية. ولو لم تكن هذه الأحداث قد وقعت لكانت هنالك أحداث أخرى سيجري استخدامها لتبرير هذا التوجه، خصوصا أن الحديث عن الأقاليم قد بدأ منذ عدة أشهر، لا سيما من قبل السياسيين السنة الذين يتهمون الحكومة المركزية بتهميشهم وتهميش محافظاتهم.

إن هذا الصراع سيمثل البعد الأكثر أهمية في تقرير مستقبل العراق، لأنه يعكس صداما متصاعدا بين اتجاهين، إذا لم يتم استبدال رؤية وسطية فعلية ومنهج واضح بهما فإن أيا منهما سيقود إلى نتائج كارثية.

الاتجاه الأول هو اتجاه مركزوي يميل خطأ إلى تصور أن الحل لمعضلات العراق هو بإعادة تشكيل سيطرة مركزية قوية على المؤسسات والمحافظات باعتبار أن ذلك هو الضمان الوحيد للحفاظ على وحدة العراق وإنهاء حالة التشتت السياسي والتناقضات الداخلية الحادة التي سمحت للتناقضات الخارجية بالنفاذ والتأثير. لا يمكن التقليل من شأن داعمي مثل هذا التوجه، لأن له تاريخا طويلا في الذهنية الإدارية والسياسية العراقية التي على الرغم من مرور ست سنوات على إقرار الدستور الفيدرالي فإنها لم تنجح في بلورة صيغة عملية وجيدة للعلاقة بين المركز والأقاليم، أو المركز والمحافظات. خطورة مثل هذا التوجه هي أنه إذا أخذ مسارا تصاعديا نحو تكريس سلطة الدولة وتوسيعها لتشمل كل زوايا البلاد ومختلف التخصصات، فإنه سيقودنا مجددا إلى بناء دولة كلانية تحتكر كل شيء، وإلى العودة لتراث سلبي قائم على شكل من هيمنة المركز على التفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بينما تستسلم الأطراف إلى التهميش والاقتناع بما يجود عليها به المركز. ما زلنا بعيدين عن هذا الوضع، وما زال الارتباك السياسي يغذي حنين الكثير من العراقيين إلى سلطة مركزية قوية، لكن الفشل في الفصل بين ضرورة وجود مركز فعال وقادر على الحفاظ على الأمن في عموم البلاد، وبين أن يكون هذا المركز كامل الهيمنة وألا يترك مساحة استقلال للأقاليم والمؤسسات، هو أكثر ما يثير الهواجس من نتائج تفوق الاتجاه المركزوي.

الاتجاه الثاني هو اتجاه إقليموي يرى أنه بات من المستحيل إعادة ترميم الهوية الوطنية العراقية والعلاقة بين المركز والمحافظات، وأن من الأسلم تقوية سلطة الأقاليم من أجل منع المركز من التغول، وكذلك لتقليل الاحتكاك بينه وبين بعض المناطق التي تشعر بأنها لم تنصف في المعادلة السياسية الجديدة. ربما تنامى هذا التوجه مع شعور بأن إمكانية إحداث تغيير داخل المركز لم تعد قائمة، ومن الأفضل العمل على الاحتفاظ بمسافة وفواصل مؤسساتية وسياسية وقانونية وإدارية عن المركز كملاذ أخير. البعض يرى أن المشكلة مرتبطة بفشل المركز في احتواء مطالب الفئات المختلفة وإشعارها بأنه ممثل لها جميعا وبمسافة واحدة عن الجميع، في حين يرى البعض الآخر أن الأمر لا يتعلق بفشل المركز بقدر ما يتعلق بالبون الشاسع الذي يفصل بين مطالب الفئات العراقية المختلفة التي يبدو أحيانا أن ما تربحه إحداها تخسره أخرى.

التوجه الإقليموي في المناطق السنية يرتبط أيضا بنمو طبقة سياسية سنية جديدة لها طموحاتها الواسعة التي تشعر بأن الوضع الراهن لا يبدو منصفا لها، ويجب أن ندرك أن العديد من الزعامات المحلية ومجالس المحافظات لديها تصور بأن التوجه نحو الفيدرالية سيجعلها تحصل على موارد أكبر أو في الأقل على حرية تصرف في هذه الموارد على الطريقة الجارية في كردستان. ويرى هؤلاء أن وظيفة المركز في هذه الحالة ستتحول أساسا إلى سلطة توزيعية مهمتها فقط تقسيم عوائد النفط بين الأقاليم، وهي الفكرة ذاتها التي سبق أن طرحها جو بايدن وجوبهت عندها باستنكار واسع بين السياسيين الشيعة والسنة على حد سواء لكونها تضع أسس التقسيم. لكن يبدو أننا في العراق سائرون نحو تجريب كل شيء، بما في ذلك الأشياء التي كنا نستنكرها سابقا.

بعض السياسيين المحليين يعتقدون أن هذا التوجه سيحولهم إلى رؤساء ووزراء لكيانات جديدة بدلا من أن يبقوا محافظين أو مديرين لمحافظات محدودة الصلاحيات. لكن المشكلة هي أنه حالما يبدأ هذا المسار سيكون من الصعب إيقافه أو التحكم في نتائجه، ويكفي أن نتذكر وضع الاتحاد السوفياتي السابق بين عامي 1989 و1991 حينما بدأت مرحلة التفكيك ولم تنفع كل الصيغ البديلة لإيقافها عن استكمال مسارها نحو التفكيك الكامل. بمعنى آخر أنه حتى لو قررت المحافظات السنية أن تعلن نفسها أقاليم إدارية منفصلة فإن هنالك عوامل ستدفع تلك الأقاليم نحو الاندماج في إقليم أكبر بهوية طائفية معينة، والنتيجة هي أن الأقاليم الشيعية ستجد نفسها في إقليم منفصل بهوية طائفية مغايرة، أما بغداد فوضعها أكثر خطورة. الأمر الثاني، حتى لو فرضنا إمكانية إحياء صيغة بايدن فإنه سيكون من الصعوبة بمكان أن يفرض على الأقاليم المنتجة للنفط صيغة دائمة لتقاسم عوائد النفط مع الأقاليم غير المنتجة، فسرعان ما سيظهر سياسيون محليون يلعبون أيضا على المشاعر الإقليمية ويدفعون باتجاه الاستئثار بتلك الموارد، وحيث لا يوجد طرف دولي محايد وضامن فإن أي صيغة توزيعية ستكون دائما عرضة للتوقف أو الفشل، وبالتالي فإن المسار التفكيكي لا بد أنه سيستكمل دورته إلى النهاية.

يبقى في رأيي حل واحد يقوم على صيغة وسطية تمنع ظهور دولة ديكتاتورية جديدة ومركز كلاني مهيمن، وتحول في الوقت نفسه دون الوصول إلى مرحلة التفكيك والتقسيم. مثل هذا الحل سيحتاج إلى صفقة وطنية لا سيما بين القوى الشيعية والسنية (للأكراد وضع خاص)، يتم فيها تعميم شكل لا مركزي أو فيدرالي إداري وآلية ناضجة لتوزيع الصلاحيات، بالإضافة إلى تغييرات مهمة على صعيد السياسات في المركز عبر قوانين للأحزاب وتنظيم للعمل السياسي ونزع الشرعية عن التشكيلات الطائفية وتعديل أو تفسير بنود الدستور. مثل هذا الحل سيتطلب طبقة سياسية مركزية ومحلية تتمتع بقدرة المبادرة وبعد النظر ووعي بخطورة الانزلاق إلى التفكك أو التحول مجددا نحو الاستبداد.