أعلام فرنسا!

TT

أفقنا على دنيا مليئة بالمظاهرات كجدول زمني أو مفكرة يومية: واحدة ضد الأميركيين في فيتنام، وواحدة ضد الفرنسيين في الجزائر، وواحدة ضد البريطانيين في عدن، وواحدة ضد وعد بلفور، وواحدة ضد حلف بغداد، وواحدة ضد حلف «السنتو» أو المعاهدة المركزية لشيء ما، وواحدة من أجل باتريس لومومبا في الكونغو، وواحدة من أجل «أنصار السلم» أي الاتحاد السوفياتي. وبلغ العداء للأجانب الشرق الأقصى، فقال أحد قادة «الحركة الوطنية» عن الراحل سليم اللوزي صاحب «الحوادث»، إنه «عميل ياباني»، أي يتعاطى مع السوني والسوميتومو والسومو (المصارعة اليابانية).

إلى جانب المظاهرات كانت هناك دعوات لمقاطعة البضائع الأميركية، والشركات التي تتعامل مع إسرائيل، وبعض العطور الفرنسية، وبعض النجوم، وبعض الأفلام، وحتى بعض الصور المتحركة. كان ذلك المناخ السائد في أمة عانت من ذل الاستعمار، بمدد متفاوتة وذل واحد. وكان للحرية والتحرر معنى واحد، هو إشهار الغضب على الغرب، سواء الإمبراطوري منه، أو الإمبريالي الحديث. وكان المتظاهرون يهتفون ضد الإمبريالية من دون أن يفهموا معنى الكلمة أو يجيدوا لفظها.

رفع المتظاهرون في بنغازي أعلام فرنسا وبريطانيا. وكانوا قد رفعوا في ساحة البرج، بيروت، أعلام فرنسا. وفي هذه الساحة قتل شهداء الاستقلال عام 1943، وهم يمزقون العلم الفرنسي (موضة الحرق لم تكن معروفة بعد). وسوريا التي طالما سميت «قلب العروبة النابض» ترتفع فيها أصوات اليوم تطالب بالتدخل الأجنبي. ولم تكن بنغازي في أي مرحلة أو يوم، أقل عروبة وحماسة من دمشق وبيروت. وعندما ذهبت إليها في المرة الأولى، عام 1967، كانت أسواقها القديمة محترقة ومحطمة، احتجاجا على النكسة. ولم تكن تنتظر ملهمها الأكبر وقائدها الأوحد، لتظهر كأحد موانئ ومراسي العروبة.

لا بد من التأمل، من الحال التي وصلنا إليها. لا بد أن نسأل إن كان حقيقيا ما نرى: أهل بنغازي يرفعون العلم الفرنسي، والعلم الفرنسي يرتفع في ساحة الشهداء في بيروت، ومجموعات عراقية تتمنى أن يؤخر الأميركيون انسحابهم، وأصوات سورية تطالب بالحماية الخارجية، والحلف الأطلسي، الحلف الأطلسي، يتولى، وسط الهتاف والتصفيق، «تحرير» شعب عربي من نظامه، بعدما ظل النظام يزرع الموت والقتل والتشريد والرعب والجوع، حتى اللحظة الأخيرة. وفي اللحظة الأخيرة وقع في قبضة ثوار مصراتة التي لم يكن هول وخراب وحزن مثل حزنها.