حول أنيس منصور في مائتي كتاب

TT

لم أكن أتصور أن الصديق الذي أصر على صداقتي رغم أني لم ألتقه يوما إلا على ضفاف الورق، لم أكن أتصور أن أمرّ على الزاوية اليسرى من الجريدة الخضراء لأجدها فارغة. كم هو قاتل الفراغ، وخاصة عندما يكون على الورق، صادم ومفزع، لاذع وحارق هو الفراغ. كم صدمني أن أجد مكانك فارغا إلا من العنوان الذي اختارته الصحيفة «رحيل الكاتب الكبير أنيس منصور» مذيلا بالعبارة «برحيل الكاتب الكبير أنيس منصور - رحمه الله – (الشرق الأوسط) تفتقد عموده اليومي»، وتحت العنوان هاوية عميقة من الفراغ المريع، حاولت تأمل الفراغ علّي أجد أثرا واحدا أو كلمة أو نكتة تدل عليك، لم يكن ثمة شيء غير صورتك التي ارتسمت عليها بسمة بسيطة وغامضة لا يشبهها شيء إلا أسلوبك في الكتابة الملتبسة الواضحة.

كان المقال الأخير فراغا مرعبا، كانت صورتك منتصبة أعلى المقال كصورتك المنتصبة فوق قبرك، والفراغ المريع أسفل الصورة ضريح كبير تحتها، أو هكذا رأيته في لحظة الصدمة الأولى. مكانك شاغر يا أنيس، ليس شاغرا منك وحدك، ولكن برحيلك رحل - مجددا - العقاد وطه حسين وعبد الرحمن بدوي وأم كلثوم، كأنما فقدناهم للتو يوم نعتك إلى قرائك هذه الصحيفة الثكلى. رحلت معك كذلك تلك الألمانية التي حدثتنا عنها ذات يوم، والإيطالية التي لاقيتها على ضفاف الريفييرا، والسيدة المصرية ذات الأصول الفلاحية التي بحت لنا ببعض من أسرارها، بل رحل اليوم كبار من عالم آخر في السياسة والفلسفة والفنون والآداب.

هل أبالغ إذا قلت رحل الشرق والغرب ممثلين في شخصية تاريخية ندر أن يجود الزمن بموسوعيتها. قرأت صبيا «أرواح وأشباح» واختلط علي الخيال بالواقع وأنا أشاهد الروح تحضر وتتكلم، وتلك اليد الفرعونية ما زالت طرية كأنها دفنت أمس، والقلم يتحرك ليكتب ما تمليه عليه في مشهد من مشاهد مسرح اللامعقول الذي يختلط به الإنس والجن في جوقة واحدة. رحلت معك لاهثا حول العالم في مائتي يوم، تعبت واسترحت، بكيت وضحكت، وكنت ممتلئا بالحضور عند الدلاي لاما، والعدوى التي سرت إليك منه انبعثت قشعريرة ورجفة شديدة في عقلي وكياني كله خلال مائتي يوم، صحبتك إلى اليابان ورأيت بنات «الجيشا» في طقوس غريبة من الرياضات الروحية والبدنية.

ذهبت بي إلى أميركا وأوروبا، ورأيت بريطانيا معك قبل أن أطأ أرضها بقدمي، حدثتني عن الإنجليز والفرنسيين والألمان، رأيتك محبا للفرنسيين ومندهشا من الألمان، ومعجبا بالإنجليز. عرفت العقاد عن طريقك، جالست في صالونه الكبار، الكبار في الفن والأدب والسياسة. دخت معك في الصالون، ورأيتك متسكعا على أرصفة معرفية وفلسفية كثيرة. لمحتك في شوارع المنصورة مع مشردي المقاهي، وفي الهايدبارك مع مجانين الإنجليز، وفي بيت الشاعر العظيم والفيلسوف العظيم والفنان العظيم من بلدان مختلفة، ولمحتك على شاطئ البحر الأحمر في اليمن المنكوبة بساستها.

رأيتك في معية عبد الناصر والسادات وحسني مبارك ولكنك في كل أطوارك كنت أنيس منصور الإنسان البسيط، والمفكر العميق والكاتب الكبير. كنت تكتب عن اليومي المعاد المكرور، فتصبح الكلمات تحت يديك جواهر من حكمة ومعرفة، ويعود المألوف في شكل غرائبي مبهر، تضفي عليه من روحك، وتعطيه من فكرك وفلسفتك ما ينزع عنه الرتابة ولا يبعده عن الوضوح.

كم ضحكنا معك وأنت تنحت النكتة بروح المصري البسيط ابن البلد وابن النكتة الذي يستطيع إحالة الليمونة الحامضة شرابا لذيذا أو نكتة رائقة. كم ضحكنا مع الكبار وأنت تقول لهم النكت التي تنحتها أنت أحيانا، وكم رأيناك تضحك مع الكبار من كل الأجناس واللغات. شيء مدهش.. كيف يكون لك كل هذا القدر من المعرفة والاطلاع بلغات مختلفة. خلفت لنا نتاجا يقارب المائتي كتاب ما بين فكر وثقافة وفلسفة وفن وأدب وعلم نفس وفلك وعلوم الطبيعة وغير ذلك في أسلوب فريد لا يشبهه إلا أنت. ألم يقل العرب قديما «الأسلوب هو الرجل»؟ وأي أسلوب امتلكت وأي رجل أنت؟

اختلف الناس حولك، حول مواقفك السياسية، وعلاقاتك بعبد الناصر والسادات ومبارك، لكن الإجماع على غزارة وجمال أمطارك واضح، حتى الذين يخالفونك لا يملكون إلا أن يقفوا على أعتابك منبهرين أمام روعة ما يأتي من داخل المحراب. أدركت بحس الفنان أن السياسة تجني على الفنان، فحاولت الابتعاد عن الكتابة المباشرة في السياسة إلى تأمل هذا العالم الغريب المتعب. كان لك من الرؤية ما جعلك تعرف أن السياسة محصورة بـ«الآن»، فآثرت أن تلتحم بالفن الملتحم بـ«الأبد». كم مر علينا من ساسة ذهبوا أدراج الحروب، وكم بقي من كتاب ما بقي الليل والنهار والمداد. تنتمي أنت إلى فعل «الكتابة» الزماني، في الوقت الذي ينتمي السياسي فيه إلى فعل «الحدث» الزمني، والفرق بين «الزماني» و«الزمني» كبير كالفرق بينك وبين من طواهم الربيع العربي أيها الخالد الكبير.

ولكن، كيف قررت يا أنيس أن ترحل دون أن تكتب مقالك الأخير، دون أن تقول كلمتك الأخيرة، دون أي وداع؟ كيف مضيت دون أن تكتب مقالك باليد اليمنى الذي حدث عنه سليمان جودة يا أنيس؟ كيف كان قبرك هو كتابك الأخير؟ كتاب طوى كل أسرار وحكمة وروح أنيس منصور الذي دار حول العالم في مائتي يوم، وطفنا حول روحه وفكره في مائتي كتاب أو تزيد؟