إيران وتعلم إطلاق الصافرة والابتعاد

TT

عادت إيران لتتصدر عناوين الصحف بسبب برنامجها النووي، كما كان متوقعا، ويشير آخر تقرير لمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يوكيا أمانو، إلى أن الشكوك في نوايا طهران في ما يتعلق ببرنامجها النووي لها ما يبررها، فربما يكون لإيران برنامج نووي سري بموازاة البرنامج المعلن. مع ذلك لا يمكن بناء سياسة على الشبهات والشكوك، تكمن المشكلة في هذه الحالة في سوابق إيران، فمنذ عقد مضى اعترفت طهران بأنها كانت تخادع على مدى 18 عاما كانت تبني خلالها مفاعلات لتخصيب اليورانيوم سرا، منتهكة بذلك الضمانات التي قدمتها للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

لم يكن مدير الوكالة آنذاك، محمد البرادعي، راغبا في المطالبة بفرض عقوبات دولية بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي وقعت عليها إيران عام 1970، وكانت الرسالة الموجهة إلى طهران واضحة، ومفادها أنها تستطيع تجاهل معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والوكالة الدولية للطاقة الذرية والقيام بما يحلو لها.

وكان هذا بالضبط ما فعلته طهران، بحسب الملا حسن روحاني، الذي كان ممثل طهران في هذا الملف، فتم الإسراع بالعمل في البرنامج السري. وبعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003 خشي الملالي أن يكونوا هم الهدف التالي لـ«رعاة بقر بوش» في واشنطن، ولتهدئة الأميركيين، أعلن الرئيس محمد خاتمي وقف تخصيب اليورانيوم، إضافة إلى التعاون مع واشنطن في أفغانستان والعراق، والجدير بالذكر أنه عدل عن القرار قبل مغادرته للمنصب عام 2005.

كان هدف دبلوماسية الملالي منذ توليهم السلطة عام 1979 هو كسب الوقت في كل القضايا، ومثل كل الأنظمة الشمولية، لا يستطيع نظام الخميني التوصل إلى تسوية أو حل وسط، فهو لا يمكن أن يتنازل أبدا إلا إذا أُجبر على ذلك.

تصرف الاتحاد السوفياتي على نحو مماثل حتى في أفضل سنواته، فعندما لا يكون هناك مناص من الحلول الوسط، كانت موسكو تقطع الوعود، لكن تنكثها، وتعامل الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، مع هذا الأمر بمفهوم «احترس من صاحبك ولا تخوّنه»، لكن العالم اليوم يجد صعوبة في تخيل إصرار قادة أي دولة طبيعية على الانتصار في كل الأمور.. تعد الحلول الوسط والأخذ والرد والتوصل إلى صفقات وبناء التحالفات، هي أساس السياسة في الدول الديمقراطية الغربية، ويثير السياسيون الإعجاب إذا كانوا يتمتعون بالقدرة على «تحقيق التوافق»، وفي الدول الطبيعية، تحظى قدرة القائد على التعامل مع العالم الخارجي وتفادي الخلافات والصراعات، وضمان الاستقرار والسلام، بتقدير كبير، لكن العكس صحيح في الجمهورية الإسلامية، فالقائد المثالي بالنسبة إلى الخمينيين هو الذي لا يصل إلى حل وسط في أي قضية ولا يعترف بقانون سوى الذي وضعه «الإمام».

يعبر الرئيس محمود أحمدي نجاد بأسلوبه المعتاد النابض بالحياة عن هذا بقوله: «قطارنا ليس له مكابح ولا يمكنه العودة إلى الوراء». أنظمة العالم بالنسبة إلى الخمينيين، بما فيه الـ57 دولة الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، غير شرعية باستثناء دولة واحدة هي الجمهورية الإسلامية. وبصفة الجمهورية الإسلامية هي النظام الشرعي الوحيد في العالم وعلى رأسه «المرشد الأعلى»، الذي يدعي أنه القائد الأوحد للعالم الإسلامي شاء أم أبى الـ1.2 مليار نسمة، لا يمكن أن تقدم تنازلات أو تصل إلى حلول وسط بشأن أي أمر من الأمور، حيث تسير علاقاتها الدبلوماسية بالأوامر والإملاءات، وعندما لا تستطيع طهران فرض إملاءاتها يحدث جمود في الموقف. كان هذا هو الحال طوال 20 عاما من المفاوضات بين إيران والدول الأربع الأخرى التي تطل على بحر قزوين، لقد وافقت الدول الأربع على نظام قانوني يحكم البحر الداخلي الكبير، مع ذلك تريد الجمهورية الإسلامية نظاما مختلفا تماما، فطالما لم تتمكن من فرض إملاءاتها، يتوقف كل شيء.

وفي بداية الشهر الحالي حدث صدام بين إيران وأفغانستان على الحدود بسبب قريتين، منذ سقوط حكومة طالبان ظلت أفغانستان تطلب من إيران الانسحاب قليلا نحو الداخل في المنطقة الحدودية للوضع في الاعتبار التغيرات التي تحدث نتيجة تغير مسار النهر، إنه أمر فني بسيط كان يمكن أن تعالجه سلطات الحدود قبل تولي الملالي السلطة، لكن ترى طهران اليوم أن أي تسوية هي دليل على «الخضوع» لأميركا «الشيطان الأكبر» الذي توجد جيوشه في أفغانستان، واستمر جمود مماثل بشأن تقاسم مياه الأنهار التي تقع على الحدود، مثل نهر باريان ووهاريرود وأرغانداب وهيرماند، ولم يتم التوصل إلى حل وسط حتى لو كان ذلك يعرض حياة الفلاحين على جانبي الحدود إلى الخطر. وتواجه طهران مشكلات مماثلة مع العراق، حيث لا يمكن التنقيب في شط العرب، وهو مصب بحر على الحدود، أو إعادة فتحه للملاحة، لأن إيران لا تقبل التوصل إلى اتفاق «لا غالب ولا مغلوب» مع بغداد. وقطع فلاحون أكراد عراقيون الشهر الماضي نقاطا حدودية مع إيران؛ احتجاجا على قرار طهران تحويل مجرى النهر. كان هذا دلالة على ازدراء الملالي للعراقيين، حيث لم يهتموا بإخطار العراقيين بما يجري بجانبهم، وتم تأجيل استخراج النفط من جزر ماجنو الواقعة على الحدود بسبب عدم التوصل إلى تسوية.

كذلك توقفت مفاوضات طهران مع منظمة التجارة العالمية بسبب إصرار الملالي على عدم توافق اللوائح معها، وتظل هذه الطريقة هي سيدة الموقف حتى في الأمور الرمزية، حيث لم تثمر 12 عاما من المفاوضات لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر؛ نتيجة إصرار الملالي على أن تكون السفارة المصرية في شارع يحمل اسم قاتل الرئيس الراحل أنور السادات، وقد فرض الملالي هذه الطريقة على أعوانهم، مثل نظام حزب البعث في دمشق، وحزب الله في لبنان، فقد أمروا دمشق عام 2009 بالانسحاب من المحادثات مع إسرائيل التي كانت بوساطة تركية؛ من أجل تفادي التوصل إلى أي تسويات أو حلول وسط، وصدرت لحسن نصر الله أوامر بتجاهل مصالح لبنان، حتى إن كان ذلك يعني دفع البلاد إلى حرب. ويرى خامنئي ورجاله أن قضية البرنامج النووي مسألة شرف وكرامة، حيث يعتقدون أن المجتمع الدولي سوف يتراجع مرة أخرى، وبالتالي لا يعيرون كلام أمانو انتباها. ويأمل الملالي أن يتعلم أمانو في الوقت المناسب من سلفه محمد البرادعي متى يطلق صافرة الإنذار ويبتعد.