استبداد الحرية

TT

ابتداء يتبادر للذهن سؤال مشروع هو: هل يمكن أن تستبد الحرية؟ وقبل الإجابة فهذه العبارة هي عبارة شهيرة للفرنسي روبسبير، زعيم «اليعاقبة» المتطرفين، بعد نجاح الثورة الفرنسية، الذي سيطر على الحكومة في عصر الإرهاب، وذلك حين أعلن أن «الحكومة الثورية هي استبداد الحرية ضد الطغيان»، ولفرط حماسته فإنه قال تلك العبارة «من دون خشية أن يتهم بأنه يتكلم في متناقضات»، كما تقول حنة أرندت تعليقا على عبارته. كتابها «في الثورة»، ص 38.

بعيدا عن الجدل الطويل حول مفهوم الحرية واختلاف مدلولاتها باختلاف السياق الحضاري الذي تطرح فيه، وقد لا يصح وصفها بالاستبداد، لكن هذا لا يمنع من أنها قد ترفع كشعار يتم تحته استخدام كل أنواع الاستبداد، ولئن أخطأ روبسبير في عبارته فلقد أصابت مدام رولان في عبارتها الأشهر: «أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك».

إن الحرية قد تستبد حين يقصر البعض تفسيرها على ديمقراطية صناديق الاقتراع؛ حيث يراد لتلك الصناديق منح الأكثرية حكما مطلقا دون شروط وقيود تمنع تغول الأكثرية واستبدادها تجاه الأقلية، سواء أكانت تلك الأقلية إثنية أم طائفية أم مذهبية أم سياسية.

ضمن هذا السياق يمكن النظر للحرية كمفهوم وكممارسة بالنظر لما يجري في العالم العربي، خاصة في دول الاحتجاجات، في تونس ومصر وليبيا، مما يمكن من فهم التخوفات التي يطرحها الكثير من المراقبين تجاه وصول الإسلاميين للسلطة في تلك البلدان. إنها تخوفات صادقة وواقعية، وهي تخوفات لا تقتصر على المراقبين فحسب، بل إنها حاضرة لدى شرائح سياسية وطائفية واجتماعية متعددة في تلك البلدان، وتعبر عنها مظاهرات بعض التونسيين بعد فوز النهضة، ويخبر بها صراع الدستور والانتخابات، أو المبادئ فوق الدستورية التي تُطرح في مصر، والأمر كذلك في ليبيا؛ حيث تشي تصريحات الأطراف بمواقف متباينة، فحين تعبر بعض النخب عن الحرية كغاية للدولة الجديدة من خلال علمانية الدولة أو مدنيتها، يقابلها البعض باتهامات ترتكز على الدين والهوية، كما صرح بعض الإسلاميين هناك.

ترى أرندت أن «الثورات بنوع خاص لم تكن موجودة قبل ظهور العصر الحديث»، وتحديدها «بنوع خاص» يوقف جدلا تاريخيا يمكن أن تثيره العبارة، وفي كتابه «تشريح الثورة» قام كرين برينتن بدراسة أهم أربع ثورات في العصر الحديث، وهي، على التوالي: الإنجليزية والأميركية والفرنسية والروسية، وقد كان صارما مع نفسه في الحرص على المنهج العلمي الذي اختاره، معاديا للتعميمات المستعجلة، متحرزا من الإطلاقات، ومع هذا فإن موقفه إجمالا من الثورات الأربع لم يكن موقفا مرتاحا؛ فهو يقول بعد طول دراسة وتحليل: «إن تعميما واحدا يربط معا هذه الثورات الأربع.. (إنها) تبين قدرا متزايدا من الوعود للمواطن العادي، وعود غامضة من مثل السعادة الكاملة، وقوية مثل الإشباع التام لكل الحاجات المادية.. لم تنجز». ص 325. إن سقف الأحلام والخيالات والوعود التي تملأ أجواء دول الاحتجاجات العربية عال جدا وغير قابل للتطبيق، والنخب المتفائلة بها بدأت بتصديق تلك الأحلام والدفع باتجاهها، ثم استدرك البعض موقفه وبدأ على وقع الأحداث اليومية والاضطرابات المتصاعدة يخفف من حدة تفاؤله ويحاول إعادة ترتيب رؤيته وطرحه، والبعض مصر على رأيه ويرى أن هذه الأحلام ستتحقق ولو بعد عقود من الزمن، وعلى الناس أن تدفع الضريبة وأن تنتظر. ولست أدري ما الذي سيجعلها مختلفة عن تلك الثورات الأربع سابقة الذكر، مع أن الزمان والمكان والواقع وطبيعة الثقافة كلها تشير إلى النقيض.

للمقارنة، فقد كان القرن الثامن عشر في أوروبا هو «عصر الكلمات الكبرى: الحرية، التقدم، الإنسان» تاريخ الأفكار السياسية، وقد كان القرن الماضي في العالم العربي عصرا مختلفا، بدأ بتيارين، الأول: نخبوي عقلاني قاده محمد عبده وانتشر ورثته ثقافيا وفشلوا سياسيا وشعبيا، والثاني: جماهيري متحمس قاده عبد الله النديم وورثه مصطفى كامل، مؤسس الحزب الوطني في مصر «قادة الفكر العربي» ص 17.

غربيا، كان للأطروحات الفلسفية والأفكار المستنيرة التي أثرت على الوعي العام عبر قرون ثلاثة على الأقل دور أساسي في ضبط إيقاع تلك الثورات وإعادتها لمسار يخدم التطور ويعيد الاستقرار، لكن المفارقة عربيا هي أن الخطاب الجماهيري ظل باستمرار وعلى مدى قرن من الزمان يستقطب الجماهير ويستحوذ عليها، وخطاب الناصرية وخطب عبد الناصر تمثل اتجاها، وخطاب حسن البنا وسيد قطب يمثل اتجاها وإن بدا مناقضا من حيث المحتوى، إلا أنهما في النهاية كانا خطابين جماهيريين تقودهما الآيديولوجيا والحماسة والاندفاع أكثر من العقلانية والواقعية.

قرر السادات إعادة الحياة الحزبية لمصر في السبعينات عبر ثلاثة أحزاب اختار أن يرأس بنفسه «الحزب الوطني» منها، ربما سعيا لكسب البعد الشعبي والجماهيري الذي تحتفظ به الذاكرة الشعبية تجاه الحزب وتاريخه، لكن المفارقة هي أن حزب الجماهير في مطلع القرن أصبح عدوها في نهايته، وثارت عليه، مما يعني أن انحيازا للشعبوية أكثر من العقلانية لم يزل مستمرا.

إن جدل الحرية الطويل في الغرب أنتج مقولات من مثل: «الحرية هي الخضوع للقوانين» روسو، أو «تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين» مونتيسكو، أو غيرهما الكثير من العبارات الفلسفية والفكرية التي تمثل عصارات لجدل علمي طويل حول مفهوم الحرية. أما في العالم العربي فلم يصل مفهوم الحرية لشاطئ بعدُ، تناولها القوميون واليسار والإسلاميون بطروحات متعددة كل منها يسير على قضبان الآيديولوجيا التي اختارها، وكثر الخصام حولها بين هذه التيارات، وداخل كل تيار منها جدل أكبر، ويكفي للمفارقة فقط أن نشير لكتاب كبير كتبه سليم بركات بعنوان «مفهوم الحرية في الفكر العربي الحديث» وأهداه في أول صفحة «إلى قدوة العرب في الحرية والتحرر.. حافظ الأسد»!

أخيرا، وللإجابة عن السؤال أعلاه غير ما تقدم، نعم، قد تستبد الحرية لدينا لأننا لم نحسم الجدل حولها، لا سياسيا ولا دينيا ولا حقوقيا ولا اجتماعيا، ولم تزل شعارا أكثر منها مبدأ، وهتافا أكثر منها قانونا، ومثار خلاف أكثر من كونها محل إجماع.