تغيير قواعد اللعبة!

TT

في عام 1986 كتبت لي زيارة بلدين مختلفين تماما، ولأسباب لا علاقة لها ببعضها، وهما تركيا وكوريا الجنوبية. وتركت هذه التجربة انطباعات ممتعة، وها أنا أعود إليها بعد زمن طويل ولأسباب مختلفة. إسطنبول بدأت وقتها كمدينة نمطية من مدن العالم الثالث، ازدحام وتلوث وفوضى وتسيب وحيرة وقلق، وعند الحديث مع الأتراك كان جليا نفسياتهم الحائرة بين أحلامهم الأوروبية وماضيهم المشرقي وحاضرهم الفاقد للوضوح. وفي سيول، العاصمة الكورية، كان المشهد مغايرا، كانت المدينة تعاني من اضطرابات ومظاهرات المحتجين على حكم العسكر الفاسد إلى درجة أن الفندق قدم لي مع مفتاح الغرفة قناعا واقيا للغاز في حالة رغبتي في أن أتمشى في الشوارع القريبة، مع جدول بمواعيد المظاهرات.

والكوريون كانوا، هم الآخرون، في صراع نفسي للخلاص من عقدتهم من اليابانيين الذين استعمروهم قديما ورغبتهم في التفوق عليهم اقتصاديا، ووقتها كوريا كان اقتصادها هشا ويعتمد على «التقليد» بشكل أساسي مخالفا كل حقوق الملكية الفكرية المعروفة. ومضت الأيام، وتحولت الدولتان تحولا تاريخيا هاما، وانفجرت طاقات الإبداع والتألق والتفوق الاقتصادي بامتياز، وتحقق الاستقرار السياسي بسبب إرساء الديمقراطية، وبات من أسباب التفاخر ما حققتاه من نسب نمو قياسية، وتفوق في مجالات التعليم والفضاء، ومكافحة الفساد، والحرية الإعلامية، والصناعة والسياحة والتقنية الحديثة. تركيا باتت «ماكينة» صناعية بامتياز للسوق الأوروبية وللعالم العربي وللجمهوريات الآسيوية الوسطى التي كانت تنتمي للاتحاد السوفياتي سابقا، وتفوقت بشكل لافت في كافة أنواع الصناعات الخفيفة والثقيلة، وأصبحت شركاتها مرغوبة بالاسم، وحصل لها نفس النجاحات في مجالات جديدة عليها مثل المصارف وشركات الاتصال وشركات الطيران والسينما والإنتاج التلفزيوني والسياحة.

وكوريا الجنوبية هي الأخرى شهدت طفرة جبارة في الصناعات الثقيلة والإلكترونية والاتصالات والترفيه والسينما والسياحة، فاليوم شركات كورية عملاقة مثل «هيونداي» و«كيا» و«سامسونغ» و«إل جي» أصبحت جزءا من الاقتصاد العالمي ولاعبا أساسيا في كل قطاع هي به، واللافت اليوم أن سيول هي المدينة الأكثر تواصلا عبر شبكة الإنترنت في العالم، والنظام التعليمي يحتل دوما أحد المراكز الثلاثة الأولى على مستوى العالم (وتتنافس معها دوما فنلندا ونيوزيلندا) وكوريا تمكنت من أن تكون مركز الإنتاج السينمائي لدول الشرق الأقصى (وتنافس أميركا والهند في حجم الأفلام المنتجة سنويا) وهي أيضا مركز سياحة التزلج في الشرق الأوسط والترفيه العائلي. كل هذه الأمثلة لتركيا وكوريا الجنوبية أسردها لتبيان أن هناك ضرورة ملحة لإعادة تصنيف دول العالم الصناعي الأول والدول الناشئة ودول العالم الثالث، وهي مسألة تظهرها بوضوح أزمة الديون الحاصلة لدول مرموقة مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا وآيرلندا والبرتغال، والتي تعاني من ورطة اقتصادية كبرى سببها رعونة الأداء وسوء الحوكمة وانعدام المتابعة والشفافية والمسؤولية، وباتت هناك دول عليها الخروج من نادي الاقتصاديات الكبرى وإدخال غيرها، لأن مجدها القديم لم يعد كافيا ولا شفيعا لإبقائها، وخصوصا في ظل وجود دول ناشئة متألقة ونافذة وفعالة مثل تركيا وكوريا الجنوبية والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند والصين وماليزيا، كلها دول طورت من أنظمتها وقوانينها وأدواتها لتفعيل أوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فحولتها إلى دول ناجحة وفعالة ومتألقة، وبالتالي أصبح من غير المنطقي ولا المقبول استمرار النظر إلى تلك الدول بنظرة دونية فيها الكثير من الاستعلاء والثقافة الاستعمارية والإمبريالية التي كانت موجودة في الزمن السابق. معايير النجاح باتت معروفة، والتفوق أصبح واضحا، وهذا سيضيف «ضغوطات كبيرة».

مناخ التنافس هذا الذي يحمس الربيع العربي أيضا سيولد دولا أخرى مرشحة بعد أن تمر بإصلاح جذري ينعكس على أوضاعها، وبالتالي تكون مرشحة للانضمام للدول الناجحة، دول مثل غانا وروسيا والأرجنتين والمكسيك وتونس وتايوان وتايلاند وإندونيسيا وسنغافورة. العالم يتغير ويتبدل والاعتماد على المعايير القديمة ليس فقط مسألة خطأ، ولكن أيضا فيه إهانة للذكاء. قواعد اللعبة تغيرت والملعب تغير.

[email protected]