المستقبل يكرر نفسه!

TT

بينما يعاني اقتصاد الدول الصناعية الغربية مر المعاناة ويترنح بقوة جراء الأزمة المالية الخانقة التي تعصف به بسبب أزمة الديون الأوروبية الحرجة، نجد أن الصين والهند لا تزالان تتمتعان بمعدلات نمو اقتصادية مرتفعة، وأن وضعهما المالي قوي ومطمئن جدا. وهذا الوضع المطمئن يولد ثقة وإحساسا بالقوة يخيف الآخرين، ولذلك ترى الولايات المتحدة اليوم أن الصين والهند بتفوقهما الاقتصادي المستمر ستتحولان إلى خطر عسكري وسياسي حتمي. فها هو الرئيس الأميركي باراك أوباما يحط رحاله في أستراليا ليعلن عن اتفاق تاريخي معها الغرض الأساسي منه استغلال كل الإمكانيات والقواعد العسكرية الأسترالية لتخزين الأفراد والمعدات العسكرية الأميركية بها. وطبعا الغاية الأساسية لهذا الاتفاق هي الإبقاء على عين قريبة من الصين المتمددة بقوة في المنطقة. علما بأن الوجود العسكري الأميركي في المحيط الهادي قديم، منذ الحرب العالمية الثانية، وهو اليوم منقسم كالآتي: في هاواي 43 ألف جندي، وفي اليابان 41 ألفا، وفي كوريا الجنوبية 29 ألفا، وفي جزيرة غوام 5 آلاف، وفي أستراليا 178 شخصا، وفي عرض المحيط 13 ألفا، لكن هناك أصواتا داخل وزارة الدفاع الأميركية تطالب البيت الأبيض بتغيير سياسة وأسلوب المواجهة مع الصين.

فلم يكن غريبا تصريح الأدميرال مايك مولن، رئيس هيئة الأركان الأميركي الأسبق، حينما قال إن أكبر تهديد مهم للأمن القومي هو «الدين العام»، ومعاناة البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) أصبحت واضحة في ظل الضغوطات المفروضة عليها لتقليص نفقاتها بشكل كبير، وهو ما أدى إلى مطالبة بعض الأصوات العسكرية بالتخلص من العلاقة القديمة مع تايوان والتي يعتقد أن دفاع وحماية أميركا لها في وجه الصين مسألة مكلفة جدا وباهظة الثمن، وهي من مخلفات الحرب الباردة، وأن العلاقة ما بين الصين وتايوان تتنامى ثقافيا وإنسانيا واقتصاديا بشكل هائل مما يجعل عودة تايوان للوطن الأم مسألة وقت، حتى وإن اضطرت الصين للتدخل عسكريا على حساب رغبات الزعماء الوطنيين اليمينيين بتايوان الراغبين في إعلان الاستقلال التام، ومن بعد ذلك يتم التعامل مع الصين بشكل اقتصادي رئيسي و«قيادتها» عبر الأفكار ورأس المال وإبقاؤها كقاعدة صناعية للغرب عموما وأميركا خصوصا.

لكن الصين فاجأت العالم بتطور نوعي في برنامجها الفضائي، وذلك بإطلاقها صاروخ «مارش» الثاني الطويل والذي يحمل مركبة الفضاء «شنزو 8»، وهي الخطوة التي ستليها رحلة إلى القمر بإنزال رواد صينيين عليه خلال سنتين، مما يعني أن الصين لديها رغبة جادة في أن يكون لها الحضور النوعي على الساحة الصناعية من دون النظرة الحالية إليها كمركز صناعي منخفض التكلفة فقط.

لكن العالم يدرك أن الصين لا تزال بعيدة عن الجدية المطلوبة الكافية في مجالات الأبحاث والتطوير وحماية الملكيات الفكرية والتقنية العالية والعلوم الحديثة التي يعتمد عليها رأس المال البشري، وهي المنطقة التي اهتمت بها الهند كثيرا من جهة أخرى، وصرفت واعتنت واهتمت بقطاع التعليم والطب والترفيه والتقنية العالية والصيدلة والأحياء الدقيقة والعضوية، وباتت مركز العالم اليوم لصناعة الخدمات وتطوير مفهومها ومخرجات تعليمها، ومكنت خريجيها من تبوؤ أهم المناصب التنفيذية في كبرى الشركات العالمية العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات.

الهند أدركت منذ البداية أنها لن تتمكن من أن تكون مركز صناعة منافسا للصين، لكنها ستكون المكتب الخلفي لكل الشركات العالمية الكبرى لتنفيذ كل عملياتها الخدمية على أراضيها، ونجحت في ذلك، وبإبهار.. ومن الأسباب المهمة جدا في عدم تأثر الصين والهند بالأزمة العالمية اعتمادهما على سوقيهما المحليتين الهائلتين، وتحول الناس فيهما من مصدرين حصريين إلى مستهلكين لما يصنعونه هم، وبالتالي هم جزء من معدلات ونسب الاستهلاك وحصص السوق.

نمو وتعاظم شأن الصين والهند على خارطة الاقتصاد العالمي سيكون له شكل واضح قريبا في تغيير تصور تقييم الدول والعملات والإنتاج ومن لا يتعامل مع هذه العناصر الجديدة بشكل واقعي سيسقط خارج المستقبل وحساباته.

[email protected]