حقيقة ما يريده نظام الأسد من فصائل دمشق الفلسطينية!

TT

كما أدى المأزق السوري المتفاقم الذي يزداد تفاقما يوما بعد يوم منذ أن بدأت هذه الانتفاضة التي تحولت إلى ثورة حقيقية تشمل البلاد كلها، إلى فرز حاد بالنسبة للوضع العربي الرسمي، كذلك فإن هذا المأزق قد عزز أيضا واقع أن الخريطة الفصائلية الفلسطينية تنقسم إلى معسكرين، معسكر يشمل الفصائل والتنظيمات المقيمة في دمشق، وهي ثلاثة عشر فصيلا معظمها قيادات بلا قواعد وجنرالات بلا جيوش، ومعسكر آخر يتمثل في منظمة التحرير وفتح والسلطة الوطنية، وتنظيمات أخرى بادرت إلى الانتقال من الخارج إلى الداخل الفلسطيني، أي إلى قطاع غزة والضفة الغربية.

وبينما بادرت الفصائل والتنظيمات الفلسطينية المقيمة في دمشق إقامة دائمة وأهمها حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى الانسجام نهائيا مع توجهات نظام الرئيس بشار الأسد، والتي هي توجهات إيران وحزب الله اللبناني أيضا، وتبني كل مواقف هذا النظام، إن سرا وإن علانية، منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية المتصاعدة في مارس (آذار) الماضي، فإن فصائل منظمة التحرير والسلطة الوطنية التي هي فصائل الداخل الفلسطيني، قد اتخذت مواقف الدول التي أيدت اتخاذ القرارات الأخيرة التي اتخذتها الجامعة العربية ضد النظام السوري، ومن بينها وأهمها تعليق عضوية سوريا في هذه الجامعة وفعالياتها وأنشطتها إلى أن تسارع دمشق لتطبيق كل بنود مبادرة المجلس الوزاري العربي التي أسقطتها الحكومة السورية منذ اللحظة بالضربة القاضية.

وحقيقة إذا كانت تبعية كل الفصائل والتنظيمات الهامشية المقيمة في دمشق معروفة ومفهومة لأنها بالأساس قد بدأت كصناعة سورية، والمقصود هنا هو النظام السوري، واستمرت سوريا وستبقى سوريا ما بقي هذا النظام، فإنه غير مفهوم وغير معروف لماذا تبقى حركة حماس تضع نفسها في هذه القاطرة، اللهم إلا إذا كانت لا تزال تعتبر أن ولاءها لإيران مقدم على ولائها الفلسطيني، وأنها بالتالي مضطرة على الإبقاء على مكتبها السياسي وعلى رأسه خالد مشعل في دمشق ما دامت بحاجة إلى الدعم الإيراني المالي والسياسي، وهذا ينطبق أيضا على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اعتادت على اتخاذ المواقف المتسرعة الخاطئة منذ إنشائها بعد يونيو (حزيران) عام 1967 مباشرة وحتى هذه اللحظة.

توحي حماس بأنها مضطرة لمجاملة نظام الرئيس بشار الأسد ومجاملة إيران وحزب الله اللبناني وعدم تحديد موقف واضح تجاه كل هذا الذي يجري في سوريا؛ لأنها محكومة بعامل الجغرافيا السياسية، ولأنها لا تجد الموقع القيادي البديل لدمشق ولا المقر الذي من الممكن أن ينتقل إليه مكتبها السياسي لدى مغادرة العاصمة السورية، وحقيقة إن هذه الحجة غير مقنعة على الإطلاق إذ إن بإمكان خالد مشعل وزملائه القياديين الذين استمرأوا العيش في الخارج بعيدا عن هموم الشعب الفلسطيني، أن يتخلصوا من مرحلة المنافي هذه نهائيا، وأن يذهبوا إلى غزة ولاحقا إلى الضفة الغربية وألا يضيعوا وقتهم ويشغلوا الآخرين بالبحث عن مأوى جديد لهم، لا في الأردن ولا في مصر، حتى ولا في قطر.

ربما لا تعرف حركة حماس أن النظام السوري عندما قبل بأن يصدر البلاغ العسكري الأول لـ«العاصفة» التي هي الجناح العسكري لحركة فتح، من دمشق كان يسعى للحصول على ورقة القضية الفلسطينية لاستخدامها في ذلك الوقت المبكر ضد زعامة جمال عبد الناصر وضد الملك حسين والأردن، وليؤكد للعالم بشرقه وغربه، أن كل أوراق المنطقة في يده، ما دامت قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى وهي قضية الشرق الأوسط كله.

لقد حاول ذلك النظام الذي كان حافظ الأسد أحد أركانه الرئيسيين، والذي لم يكن مقتنعا لا بالثورة الفلسطينية ولا بالكفاح المسلح، وكان يرى أن لواء في الجيش السوري أهم من كل هذه الظاهرة من أولها إلى آخرها، والذي بصفته وزيرا للدفاع قد أصدر في عام 1968 مذكرة من ثمانية عشر بندا حدد فيها حركة المقاتلين ومنعهم من دخول المدن والقرى السورية بالألبسة المرقطة، ومنعهم أيضا من تنفيذ أي عملية عسكرية عبر خطوط هضبة الجولان السورية.. لقد حاول ذلك النظام استيعاب حركة فتح واستيعاب قياداتها، لكنه عندما فشل بادر إلى إنشاء منظمة طلائع حزب التحرير الشعبية «الصاعقة» وإلى إنشاء تنظيمات أخرى بقيادة ضباط من جيش التحرير الفلسطيني يرتبطون بالاستخبارات العسكرية السورية، كما بادر إلى دفع بعض هؤلاء الضباط في اتجاه حركة فتح للسيطرة عليها من الداخل.

ولعل ما يجب ذكره هنا هو أن النقيب يوسف عرابي وهو أحد ضباط جيش التحرير الفلسطيني البعثيين الذين تم دفعهم لاختراق حركة فتح بهدف السيطرة عليها من الداخل قد تم اغتياله في ظروف غامضة في بدايات عام 1966 وكان رد النظام السوري على ذلك هو اعتقال ياسر عرفات والزج به في السجن، وكانت تلك المرة هي المرة الثانية والأخيرة التي يعتقل فيها (أبو عمار) في دولة عربية وغير عربية، فالمرة الأولى كانت في لبنان، حيث وضع في سجن الرمل في بيروت الغربية بعد انطلاق الثورة الفلسطينية مباشرة.

وربما أيضا من غير المعروف أن حافظ الأسد قد أرسل قواته في منتصف سبعينات القرن الماضي إلى بيروت وإلى صيدا للسيطرة على القرار الوطني الفلسطيني، وهذا بالطبع إلى جانب أهداف أخرى تتعلق بالوضع اللبناني الداخلي، وخاصة أن مفاوضات السلام العلنية والسرية كانت قد بدأت تتخذ طابعا جديا بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 ووصلت كما هو معروف إلى إبرام اتفاقيات كامب ديفيد وإلى اتفاقيات أوسلو واتفاقية وادي عربة بعد ذلك.

وحتى بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 وإخراج منظمة التحرير بمقراتها وقياداتها وجيوشها من بيروت فقد حاول حافظ الأسد استيعاب كل الفصائل الفلسطينية وكل القادة الفلسطينيين في دمشق على اعتبار أن كل هذا سيضع في يده ورقة مهمة، سواء بالنسبة لعملية السلام أو بالنسبة لصراعه مع العراق ومع مصر ودول عربية أخرى في المنطقة، لكن ياسر عرفات الحريص دائما على ألا يسلم قضيته وأوراق قضيته لا إلى سوريا ولا إلى غيرها قد هرب بقيادته وبقراره إلى تونس، حيث كما هو معروف قد عاد من هناك إلى غزة والضفة الغربية وفقا لاتفاقيات أوسلو الآنفة الذكر.

لقد كان هذا العرض المختصر ضروريا لإدراك حقيقة العلاقات بين دمشق والثورة الفلسطينية بكل فصائلها منذ عام 1965 وحتى هذه اللحظة لنعرف كم أن هدف استضافة هذه الفصائل التي يقال إن عددها ثلاثة عشر فصيلا، من بينها بالطبع حركة حماس، في العاصمة السورية «وعلى الرحب والسعة» هو التأثير على القرار الوطني الفلسطيني، إن ليس بالإمكان السيطرة عليه وهو أيضا الاستخدام الداخلي لتبرير حكاية «الممانعة والمقاومة» وللاستمرار ببيع هذه البضاعة المغشوشة على الذين لا يعرفون حقائق الأمور إن داخليا وإن خارجيا.

لكن وقد أخذت عملية الفرز في ضوء كل هذا الذي يجري في سوريا هذا الطابع الحاد فإنه من المستغرب فعلا أن تبقى حركة حماس تتمسك ببقاء مكتبها السياسي وعلى رأسه خالد مشعل في دمشق، وأن تتخذ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انتقل ثقلها إلى الداخل في غزة والضفة الغربية في فترة سابقة بعيدة هذه المواقف المستغربة بالانحياز إلى نظام بشار الأسد على اعتبار أنه نظام «مقاومة وممانعة» وأنه نظام تقدمي يتصدى لقوى رجعية وظلامية تنفذ مخططات خارجية أميركية وأوروبية تستهدف «القرار السوري المستقل» وتسعى لتمزيق سوريا والمنطقة على أسس طائفية وعرقية!!