الحاجة إلى «سقراط» في كل عاصمة عربية

TT

يرحم الله الفيلسوف اليوناني سقراط، الذي علينا أن نتعلم منه الدرس الأول في الحياة.. إذ من دون هذا الدرس، يظل ينقصنا شيء مهم، وهو شيء لا يمكن أن تستقيم لنا حياة، إذا لم نستكمله، ونحرص عليه!

كان الرجل إذا فتح فمه بكلمة واحدة، مع أي أحد، يظل حريصا على أن يحدد بوضوح معنى هذه الكلمة، عنده، وعند الطرف الآخر، وكان يرى أنه إذا لم يفعل ذلك، ابتداء، وقبل كل شيء، فإن الحوار بينه، وبين أي إنسان، يبقى في محصلته الأخيرة، نوعا من العبث، وإضاعة الوقت، واستهلاك الطاقة، فيما لا جدوى من ورائه!

وقد قيل عن «سقراط» كثيرا، إنه - على سبيل المثال - كان إذا صادف رجلا في أي طريق، ثم قال له هذا الرجل: السلام عليكم يا سقراط.. فإنه، في ذات اللحظة، يستوقفه، ويسأله على الفور، عن معنى «السلام» الذي كان يقصده حين ألقى عليه السلام.. وكان إذا بادره أحد قائلا: صباح الخير يا سقراط.. فإنه، بالدرجة نفسها من الحرص، كان يعاجله ويسأله.. قل لي يا فلان: ما معنى «الخير» الذي أردته، وأنت تبادرني بهذه التحية؟!

ولم يكن سقراط «يتفلسف» كما نقول نحن، في حياتنا اليومية، عن كل بني آدم، يمضي في هذا الاتجاه، ويتمسك بأن يتلمس ملامح الطريق الذي يمشي عليه، قبل أن يسعى فيه.. لا.. لم يكن سقراط مغرما بذلك، من أجل الغرام بالتفلسف، في حد ذاته، وإنما كان راغبا، في الأساس، في أن يتكلم الناس، إذا تكلموا، عن شيء واحد، لا عن شيئين لا علاقة بينهما، في الوقت الذي يتخيلون فيه، أنهم يتحدثون عن شيء واحد، عندك، وعندي، وعنده، وعندها!

ولو أنت راقبت أي اثنين يتحدثان، في أي مكان بيننا، فسوف تكتشف كم كان سقراط على حق، عندما سن هذه السُنة، في حياته، فعاش ومات عليها، ثم عاش ومات أيضا، وهو يدعونا إليها بكل قوة.. إنك، لو راقبت أي شخصين يتحدثان بيننا، فسوف يتبين لك، في الغالب، أنهما في الأصل، يتحدثان عن شيئين اثنين، لا عن شيء واحد كما يتخيلان، ولا يصلان لذلك إلى نتيجة في الآخر، ولا يدركان، في الوقت ذاته، أن ما يتحدث عنه أحدهما، لا علاقة له بما يقصده الآخر، وربما تكون هذه هي آفة كل حديث يدور على أرضنا!

تداعت كل هذه المعاني في ذهني، حين طالعت نص محاضرة كان قد ألقاها الوزير محمد بن عيسى، وزير الخارجية والثقافة الأشهر في المغرب، أيام الملك الحسن الثاني، وكانت المحاضرة في جامعة أكسفورد البريطانية، يوم 26 أكتوبر الماضي، وكان عنوانها «الحراك الاجتماعي العربي.. تداعياته ومآله».

وأنت، لو أتيح لك أن تطالع نص المحاضرة فسوف تجد أنها تستعرض ما حدث في عدة عواصم عربية، بدءا من تونس، مرورا بالقاهرة، وانتهاء بطرابلس الغرب في ليبيا، ثم دمشق، وصنعاء.. هذه العواصم الخمس، شهدت ولا تزال حراكا اجتماعيا، راح الوزير بن عيسى، في محاضرته الطويلة، يتعقب تداعياته، ويتحرى مآله، لعلنا نفهم في النهاية، ماذا بالضبط حدث في هذه العواصم وماذا يحدث، وما الذي سوف يحدث، مستقبلا، استنادا إلى ما قام ويقوم على أرض العرب.

وربما تكون أنت قد لاحظت، أن «بن عيسي» سمى ما جرى وما يجري «حراكا» ولم يسمه «ربيعا» كما جرت العادة وتجري هذه الأيام، ولم يجرب، في الوقت ذاته، أن يسميه ثورة، مثلا، كما يحلو لكثيرين منا، أن يفعلوا.

قد تكون كلمة «ثورة» قد جاءت في ثنايا المحاضرة، مرة هنا، وأخرى هناك، تجاوزا، وقد يكون مسمى «الربيع» قد ورد هنا، أو هناك أيضا، بشكل عابر، وليس عن قصد من جانبه في تسمية ما نراه، على أنه ربيع، أو أنه ثورة مكتملة، كما قد يراه بعضنا.. أقول قد.. لأن العبرة هنا، في ظني، تظل في عنوان المحاضرة، وهو «الحراك الاجتماعي العربي» ولذلك، فما تعيشه هذه العواصم الخمس، منذ أن أشعل «بوعزيزي» التونسي، النار في جسده، في ديسمبر الماضي، وحتى اليوم. إنما هو، في نظر محمد بن عيسى «حراك اجتماعي».. وهو يتعامل معه، طول المحاضرة، على هذا الأساس، وليس على أي أساس غيره.. ولكن.. في المقابل لا يزال هناك بيننا، إلى اليوم، كثيرون يرون أن ما جرى ويجري، ثورة، بكل معاني الكلمة.. وهناك، في المقابل كذلك، كثيرون آخرون، يرونه انتفاضة، ثم إن هناك، أخيرا، من يستجمع ذلك كله، في عبارة واحدة، ويصف المسألة في إجمالها، من أولها إلى آخرها، بأنها «ربيع عربي»!.

نحن، إذن، أمام أربعة مسميات رائجة، لشيء واحد، هو القاسم المشترك الأعظم، بين العواصم الخمس.. وربما أذكر، هنا، على سبيل إنعاش الذاكرة لا أكثر، أني كنت قد سألت المفكر العربي الراحل خلدون النقيب، في لقاء معه في بيته بالكويت، قبل رحيله بأيام، في أبريل الماضي، عما إذا كان ما تشهده عواصمنا الخمس، ثورة، أم أنه شيء آخر، فاستبعد الرجل، يرحمه الله، مسمى الثورة تماما، وكان رأيه أن مسمى «الانتفاضة» هو الأقرب علميا، وواقعيا، لما حدث ويحدث، وحين عدت أسأله، عما إذا كان لا يخشى غضب الشارع، في هذه العواصم، وهو ينزع عنه مسمى الثورة، قال الرجل ما معناه، إنه في الأصل باحث، ويسعى بالتالي وراء الحقيقة، كما هي، وكما تقول بها الأصول والقواعد المرعية، وليس كما قد نتصورها أو نتخيلها، ولذلك، فلا يعنيه من قريب أو من بعيد، رضا هذا الشارع، أو عدم رضاه، لأنه، كمفكر، يريد أن يُرضي الحقيقة، والحقيقة وحدها.

وليس هذا بالطبع، هو كل ما استوقفني في محاضرة الوزير بن عيسى، فما تناولته منها، حتى الآن، هو الشكل، أما جوهرها فهو أمر آخر، وعندي فيه عدة ملاحظات، تتصل بالموضوع، وقد أعود إلى ذلك، في حديث آخر، ولكني فقط أردت أن أقول، إننا نتحدث منذ ديسمبر الماضي، حتى اليوم، عن شيء واحد، بمسميات أربعة، وربما أكثر، وأننا، لهذا السبب، أحوج الناس إلى استلهام منطق سقراط، في الكلام عما جرى ويجري، إذا أردنا توصيفا دقيقا له، لأن هذا التوصيف الدقيق، هو بداية الطريق، نحو فهم واضح للظاهرة كلها، ولا سبيل أمامنا إلى فهم من هذا النوع، إلا إذا حددنا منذ البداية، عن أي شيء على وجه التحديد، نتحدث، وما اسم هذا الشيء، فإذا اتفقنا على هذه الأرضية هنا، فالباقي سهل!