مستقبل تركيا داخل نطاق الحضارة الإسلامية

TT

طرح عدد كبير من المعلقين، على مدى العقد الماضي، تساؤلات حول «الوجهة التي تسير نحوها تركيا». كان السبب الواضح وراء هذه التساؤلات هو السياسة الخارجية التي تميل نحو الاستقلالية التي بدأت أنقرة تضعها وتتبناها. من الأسباب الأخرى: طبيعة النخبة السياسية الحاكمة في تركيا؛ حيث يختلف القادة ذوو الفكر الإسلامي عن توجه المؤسسة العلمانية التي حكمت البلاد في الماضي. ورأى بعض المعلقين القلقين في تركيا والغرب في هذا الأمر تحول تركيا إلى «إيران أخرى»، بمعنى أنه لا يوجد تصنيف آخر خارج مجموعتين: التابعون للغرب أو أعداؤهم. ويختلف بعض المعلقين الآخرين قليلا عن الفريق الأول؛ حيث يعتقدون أن تركيا ترتكب خطأ «بتطلعها للمنافسة خارج نطاقها». مع ذلك، من الممكن رؤية الدولة التركية الجديدة التي تجنح إلى الإسلام والاستقلال باعتبارها قوة إيجابية في العالم الإسلامي، وهو ما يمكن أن يساعد الغرب في النهاية. ربما لم يصرح أحد بهذا أكثر من روبرت ميري، رئيس تحرير «ناشيونال إنترست»، وهي مجلة سياسية مقرها واشنطن، في مقال له مؤخرا بعنوان «أطروحة هنتنغتون ودور تركيا الجديد».

ويبدأ ميري مقاله بتصحيح سوء الفهم الشائع الذي يحيط بالأستاذ الراحل صامويل هنتنغتون وأطروحته الخاصة بـ«صدام الحضارات» التي حظيت بمناقشة موسعة. ويوضح ميري أن هنتنغتون لم يبغِ أن يحدث صدام بين الحضارات، بل فقط تنبأ بهذا وناقش وسائل تجنب مثل هذا الصدام؛ فقد دعا، على سبيل المثال، إلى «سياسة خارجية أميركية تقوم على احترام الدول التي تنتمي إلى حضارات أخرى وتقدير الأمور الثقافية الحساسة بالنسبة إليها». وبالمنطق نفسه، عارض هنتنغتون الحرب ضد العراق. ويشير ميري إلى أن هنتنغتون كان يرى مشكلة كبيرة في الحضارة الإسلامية؛ فعلى عكس أميركا بالنسبة للغرب أو روسيا بالنسبة إلى الحضارة الأرثوذكسية، لم يكن للإسلام «دولة واحدة ذات حضارة»، وهذا الأمر ضروري لأنه يمثل «أساس النظام الذي يحكم الحضارات من الداخل وعلاقتها بعضها ببعض من خلال المفاوضات بين الدول ذات الحضارات المختلفة».

في حقيقة الأمر، كان للإسلام دولة واحدة ذات حضارة حتى بداية القرن العشرين، ولم تخرج عن نطاق الإمبراطورية العثمانية «لكن حينها، أصبحت تركيا دولة يصفها هنتنغتون بمسمى (دولة ممزقة)؛ دولة بها ثقافة واحدة سائدة تضعها في سياق حضارة واحدة، بينما يسعى قادتها إلى تحويلها لحضارة أخرى»، حسبما يشير ميري.

حافظت الحرب الباردة على التوجه الغربي لتركيا؛ فالتهديد السوفياتي كان موطن خوف مشتركا بالنسبة لكل من تركيا والغرب. على الرغم من ذلك، كان التغيير حتميا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وفي فترة جعل فيها الاتجاه لإرساء الديمقراطية الرأي العام في تركيا أكثر تحديدا بشأن سياستها الخارجية.

ما يميز ميري عن غيره من الخبراء الأميركيين الذين يستشهد بأقوالهم وينتقدهم هو أنه لا ينظر لتركيا الجديدة بوصفها نقمة على الغرب، وإنما نعمة بالنسبة لهم. ويقول صراحة:

«يجب تشجيع تركيا على تطوير دورها كمحاور إسلامي، بل ربما حتى كدولة ذات حضارة في العالم الإسلامي، ويمكن أن يساعد ذلك في قيادة الشرق الأوسط في خضم المآزق والصراعات الحالية التي يمر بها بشكل أفضل مما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة. وذلك لأننا نعيش في حقبة صراع الحضارات».

أتفق مع هذا، سأضيف فقط أن وجود تركيا في الحضارة الإسلامية يجب ألا يحرمها من أعظم إنجازين للحضارة الغربية: الديمقراطية الليبرالية، واقتصاد السوق. بل على العكس تماما؛ إذ يجب أن تكون تركيا قادرة على وضع نظام ديمقراطية ليبرالية ونظام اقتصاد سوق خاص بها، مع إضفاء «صبغة» إسلامية عليهما، ومن ثم مساعدة الدول الإسلامية الأخرى في أن تحذو حذوها بشكل أكثر سهولة.

يبدو نظام اقتصاد السوق هنا أسهل في التطبيق من الديمقراطية الليبرالية، ففيما يتعلق بالديمقراطية الليبرالية، لا يزال أمام حكومة حزب العدالة والتنمية، التي تستحق التقدير لنجاحها في جعل تركيا مرشحة لتكون «دولة واحدة ذات حضارة» في العالم الإسلامي، الكثير لتفعله، بل وحتى بعض الأخطاء التي تحتاج لمعالجة. وثاني أكبر تساؤل يطرح نفسه هو ما إذا كان المسؤولون الأتراك يملكون الرؤية والإرادة لتحقيق تلك الغاية أم لا.

* بالاتفاق مع صحيفة «حرييت ديلي نيوز» التركية