الثورة المصرية وملحمة الموجات البشرية

TT

ذكَّرني الأُسبوع المصري الأخير بمقدمة رواية تشارلز ديكنز الشهيرة «قصة مدينتين» عن زمن الثورة الفرنسية: كان عصر النور وعصر الظلام، عصر العلم وعصر الجهل، عصر الأمل وعصر اليأس، عصر المجد وعصر الذلّ، عصر النصر وعصر الهزيمة.. إلخ. لكنني وبعد أن تأمَّلْتُ الأمر قليلا، ما وجدْتُ أنّ تلك المقدمة تفي المشهد الملحمي حقَّه، فانصرفْتُ للقَصص الملحمي المصري في العصر المملوكي، كما انصرفتُ إلى مراجعة «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«الزيني بركات» لجمال الغيطاني.

إنه مشهدٌ تاريخي هائلٌ ما أحسبُ أنّ الأمم عرفتْ مثله في أزمنتها الحديثة والمعاصرة. فكما فاجأتنا الثورتان التونسية والمصرية، أجدُ الآن أنّ مصر من خلال موجاتها البشرية المنقطعة النظير تفاجئُنا كلَّ يوم، وصار من الغباء والبلاهة اعتبار أنّ الأمر انتهى عند هذا الحدّ أو ذاك. فقد كانت الشهور الأربعةُ الأخيرةُ محيِّرةً إنْ لم تكن مُقْبضة. فقد كاد كثيرون منا ينصرفون عن مصر وأحداثها لا زُهدا ولا جَزَعا، بل للعجز عن الفهم، والعجز عن المتابعة. فقد استقرّ المشهد على تنافُسٍ بين الثوار المدنيين والإسلاميين على المقاعد المنتظَرة في مجلسي الشعب والشورى، وظهرت تُنائيةٌ كاسحةٌ بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين. فالنظام الأمني السابقُ كان وجهه المدني والسياسي الحزب الوطني، والإخوان المسلمون كانوا معارضيه ونقيضَه.

وقد اعتقدتُ لنحو الستة أشهر أنّ النظام الأمني سقط، فسقطت معه نقائضه. ثم بدأْتُ اتشكَّكُ في هذه الثنائية أو في صحة التشخيص. وبدت مصر هي المَثَلُ لقصور ما ذهبتُ إليه. فالمجلس العسكري اتجه إلى أن يجعلَ من بقايا الحزب الوطني المنحلّ واجهتَه السياسية من جديد، وكان الجديد غير الجديد في الحقيقة (لأنّ الإخوان كانوا جزءًا من النظام السابق!) هو إقبالُ المجلس ذاك على إشراك نقيضه أو مُقاسمته. أما الشبان الذين صنعوا الانتفاضة العجيبة فبدوا واقعين بين المطرقة والسندان، ويتنافسون على الفُتات الذي تتركه لهم الثُنائية الفظيعة تلك. ثم بدأت أحداثُ المرحلة الجديدة من ملحمة الثورة المصرية في مثل هذا اليوم من الأُسبوع الماضي.

لقد تنادى الإخوان المسلمون والسلفيون وحركة 6 أبريل وحركات أُخرى صغيرة لعمل مليونية تضغط على المجلس العسكري إمّا لتحسين الأنصبة أو الشروط. لكنّ هذا «التخمين» حدَّت من صدقيته الشعارات واليافطاتُ المختلفة التي رفعتها الجهات المشاركة. فالإخوان كانوا مهتمين بإسقاط الوثيقة المنسوبة لعلي السلمي بشأن المبادئ الأساسية أو فوق الدستورية أو الحاكمة للدستور. وحجتهم في هذا أنّ في ذلك استباقا للإرادة الشعبية، إذ المفروض أنّ الدستور كلَّه سوف تقوم بصياغته لجنة المائة التي تتشكَّل من مجلسَي الشعب والشورى بعد الانتخابات.

والظاهر أنّ الوثيقة «السلمية» كان هدفها طمأنة الجيش إلى حصانته في مادتيها التاسعة والعاشرة، في ظلّ الديمقراطية؛ وهو الأمر الذي رفضه الجميع، وكان الإخوانُ أشدَّهم رفضا باعتبار مخالفة القسمة الضمنية: البرلمان للشعب (وللإخوان ضمنا)، والرئاسة للجيش أو لأحد الموالين له! بيد أنّ المدنيين المشاركين في المليونية ما اهتموا في يافطاتهم للوثيقة وإبطالها، بقدْر ما اهتمُّوا لأمرين آخرين: المطالبة بالخلاص السريع من حكم المجلس العسكري، والمطالبة بحكومة إنقاذ ذات صلاحيات، وهو ما يؤدي ضمنا أيضا إلى تأجيل الانتخابات التي تجري - بحسب البرنامج المعلن - بعد أُسبوع.

ولن يعرف أحدٌ على وجه التحديد كيف بدأ الاضطراب والاشتباك بعد انقضاض المليونية التي لم تكن مليونية! المهمُّ والبارزُ أنّ عدة مئاتٍ من المتظاهرين رفضوا مغادرة ميدان التحرير بعد ذهاب «الكبار» وبخاصةٍ الإخوان المسلمين، وأرادوا الاعتصام أو الاستمرار فيه من أجل مطالب «فئوية» كما قيل. وحاولت الشرطةُ وقوات الأمن المركزي فضَّ الاعتصام بالقوة أيام السبت والأحد والاثنين، فصارت المئات القليلة آلافا مؤلَّفة، ووصلوا بعد سقوط آلاف الجرحى وأكثر من أربعين قتيلا إلى نحو نصف المليون يوم الثلاثاء الماضي. وقد حاولت وسائل الإعلام شبه الرسمية في اليومين الأولين التهديد بالفوضى والفتنة، ودعوة الجيش لحسْم الأمر لصالح قوات الأمن التي صارت في مواقع الدفاع أمام وزارة الداخلية، وفي الإسكندرية والسويس والإسماعيلية. وما استطاعت الحكومة الضعيفة الصمود أمام الموجات الهادرة، وبدا المجلس العسكري مشلولا، وكان عليه أن يستمع لبرنامج «العامة والأوباش والحرافيش» المصممين في عشرات المواطن بمدن مصر وبلداتها على: إزالة حكم العسكر وتشكيل مجلس رئاسي، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، والتحقيق في أسباب قتل المتظاهرين واضطهادهم.

إنما الصادم في اضطرابات الأيام الأربعة عدة أمور؛ أولها أن حملة الشبان المدنيين شملت المجلس العسكري والإخوان على حدٍ سواء، والذين اضطروا لمغادرة الميدان إلى غير رجعة، وثانيها أنّ معظم الذين شاركوا في الموجة الجديدة ينزلون إلى الساحات للمرة الأولى، لم يكونوا ممن نزلوا في الأيام الأولى لثورة يناير. وثالثها أنّ المطلوب بإلحاح كان ولا يزال تجاوُز المرحلة الأخلاقية، مرحلة الغضب والثوران، إلى المرحلة السياسية التي تريد القطْع مع الماضي بكلّ مظاهره وظواهره. ورابعها ظهور التفاوت وأحيانا التناقُض بين الوطنية المصرية والإسلام السياسي. ولكلٍ من هذه الظواهر الصادمة تعليلاته ونتائجه التي ما عاد من الجائز تجاهُلُها.

لقد حكم العسكريون والأمنيون مصر منذ عام 1952، وصار من الضروري في نظر شباب مصر ومهمَّشيها أن يخرج هؤلاء من الحياة السياسية بتاتا، ويعودوا إلى مهمتهم الأساسية والوحيدة في الدول والأنظمة الطبيعية. وقد كانت حجة العسكريين للبقاء في الشهور الماضية أنّ الثورة ما كانت لتنجح لو لم يتخلَّصوا هم من مبارك وصحبه، وأنّ وجود الجيش في الحياة العامة، في المرحلة الانتقالية على الأقلّ، ضروري لأمن البلاد وأمانها. وجاءت الموجة الملحمية الجديدة أو الثانية لتُبطل الحجتين: فالناس قادرون على تغيير نظامهم دون حاجةٍ إلى مساعدة العسكريين الذين كانوا من دعائم النظام السابق. ثم إنهم ما استطاعوا استعادة الأمن والأمان، وعادوا لأساليب ووسائل القمع السابقة.

بيد أنّ الأهمّ هو الظاهرة الأُخرى ذات الدلالة. فالإسلام السياسي ممثَّلا بالإخوان المسلمين، أراد أكل رؤوس الناس باستخدام الإسلام في العمل السياسي، باعتباره حامي الدولة والدين معا أو المسيطر على الدولة والمجتمع باسم الدين. وقد ذكّر شبان الموجة الجديدة الإخوان أنهم جميعا مسلمون، وأنّ عليهم أن يقرروا هل يريدون الانصراف للعمل الدعوي، وبالتالي ليس من حقّهم المشاركة في العمل العام، أم يريدون الانصراف للعمل العام، فعليهم عندها عدم استغلال الدين. وقد اختار الشبان الأزهر باعتباره مؤسستهم الدينية الكبرى، وطالبوا بالاستغناء عن وثيقة علي السلمي، لصالح وثيقة الأزهر القائلة بالدولة الديمقراطية والتعددية، والتي تكون المواطنةُ عمادَها، ويكون الشعب فيها مصدر السلطات. وبذلك فقد تجلّى المشهد كما لم يحدث من زمنٍ طويلٍ عن وضوحٍ منقطع النظير في أذهان الجمهور الشابّ بين الدين والدولة، وبين الوطنية المصرية والإسلام السياسي. فما عاد هناك مدني وعلماني من جهة، وإسلامي من جهةٍ أُخرى، كما ثبّت الإخوان في الأذهان عبر خمسة عقودٍ وأكثر!

لقد عاد كثيرون في الأيام الأخيرة إلى تشبيه المشير طنطاوي باللواء محمد نجيب في السنتين الأُوليين لثورة 23 يوليو 1952. فقد أزال «الضباط الأحرار» آنذاك بزعامة جمال عبد الناصر محمد نجيب وصحبه بعد أن اتخذوه ستارةً على مدى عامين. وهذا تشبيهٌ فيه الكثير من الخَطَل، والمشير طنطاوي مظلومٌ وربما سائر أعضاء المجلس العسكري. فالعسكريون والإخوان وآخرون عديدون من مرشَّحي الرئاسة والمجالس، شخوصٌ وكياناتٌ من الماضي السحيق.

المجتمع المصري يجدّد نفسه، ويتحرك من أعماق التاريخ إلى آفاق المستقبل. وهو تجددٌ ضخم الأعباء، وضخم التكاليف، والعملية زاخرةٌ وما كشفت عن سائر وجوهها وأبعادها بعد. وإذا كان عام 2011 قد كان عامَ ظهور الجديد؛ فإن عام 2012 هو عامُ استعلائه وانتصاره، ليس في مصر وحسْب، بل في اليمن وسوريا وتونس وليبيا أيضا وربما في بقاعٍ أُخرى: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».