موسم الحكومات في أوروبا

TT

في الوقت الذي كانت فيه العواصم العربية المطلة على البحر المتوسط على مدار العام الماضي، تموج بالثورات المطالبة بالديمقراطية، شهدت العواصم الأوروبية انتكاسة ديمقراطية. بطبيعة الحال، ليس بمقدور أحد أن يؤكد على سبيل اليقين أن «الربيع العربي» سيحقق الديمقراطية، إلا أن الجميع قد يتفق على أنه عندما تقع «انتكاسة ديمقراطية» في أوروبا، علينا أن ننتبه.

وأنا أعني بـ«انتكاسة ديمقراطية» تعيين حكومة غير منتخبة، علاوة على فرض سياسات لم يوافق عليها الشعب، وهو أمر غير ممكن حتى الآن.

وحتى تاريخ كتابة هذا المقال، قامت آيرلندا والبرتغال وإيطاليا واليونان، وهم جميعا أعضاء في الاتحاد الأوروبي، بفرض حكومات على شعوبها، حيث تم تعيين أول حكومة غير منتخبة في إيطاليا بعد إعدام موسوليني عام 1945. وتفتخر الحكومة الجديدة بأن أعضاءها ليس لديهم خبرات سياسية، كما لم يتم اختيارهم من خلال هيئة انتخابية.

كذلك تم تعيين أول رئيس وزراء غير منتخب في اليونان منذ عام 1974، عندما انتهت الديكتاتورية العسكرية هناك.

وفي البرتغال وآيرلندا، وكلتاهما عضو في الاتحاد الأوروبي، وآيسلندا، وهي ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، تم تعيين حكومات جديدة بعد أن تعهدت بتنفيذ سياسات تمليها عليهم قوى تفوق سيطرة الدوائر الانتخابية.

وفي إسبانيا، وقبل إجراء الانتخابات العامة يوم الأحد الماضي، أجبر خوسيه لويس ثباتيرو، رئيس الوزراء على اعتزال العمل السياسي وهو لا يزال في الواحدة والخمسين من عمره!

حتى في ألمانيا وفرنسا، اللتين يفترض أن يكونا ذوي ثقل في الاتحاد الأوروبي، اضطرت الحكومات إلى تغيير استراتيجياتها تحت ضغوط من خارج النظام الديمقراطي.

والآن ربما قد تشكل لديك انطباع أن أوروبا تعاني من سلسلة من الانقلابات. وحسب التعريف فالانقلاب مناهض للديمقراطية على الدوام.

وتحدث الانقلابات عندما تقوم مجموعة من الضباط باستخدام الجيش، المؤسسة العامة تنتمي للشعب بأكمله، لخدمة مصالحها الخاصة، والتي تبدأ بتقلد السلطة. وفي الانقلاب، يصبح الجيش الذي من المفترض أن يدافع عن البلاد ضد العدوان الخارجي أداة للتدخل في الشؤون الداخلية. ويعلم العرب جيدا معنى هذا، ولا سيما بعد أن عانوا من العشرات من الانقلابات في نصف قرن.

لكننا في الانقلابات الأخيرة التي حدثت في أوروبا لا نتعامل مع متآمرين عسكريين، كذلك لم تتحرك الجيوش الأوروبية، أو ما تبقى منها، بل قامت بها مجموعة من البيروقراطيين والتكنوقراط الذين احتلوا مناصب استراتيجية داخل أجهزة صناعة القرار، على مدار عقود.

فعندما ينظم الجيش انقلابا، فهو يفعل ذلك باسم «الأمة»، والتي وفق هذا السياق، تجريد أجوف لكنه خطير. وحجة قادة الانقلاب العسكري في ذلك بسيطة، وهي أن «الأمة» في خطر وبحاجة إلى الجيش لحمايتها! وهنا يعد التهديد هزيمة، بينما يعد الوعد انتصارا!

وفي التجربة الأوروبية الحالية، يعمل صناع الانقلاب تحت اسم آخر خطير هو «السوق»، حيث يدعون أن القادة المنتخبين لا يستطيعون حماية «الاقتصاد»، وأن السياسة تضر مصالح «الشعب».

والكثير من الأشخاص الذين تقلدوا السلطة في الانقلابات الأخيرة هم رجال بنوك أو أعضاء سابقون في بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، جزء من النظام الشيوعي في العالم الديمقراطي. قال ماريو مونتي، مسؤول سابق في الاتحاد الأوروبي تم تعيينه رئيسا للوزراء في إيطاليا: «في الواقع إن سبب قوة حكومتنا هو أن من يشكلها لا علاقة له بالسياسة».

وفي اليونان، ادعى لوكاس باباديموس، مصرفي آخر أصبح رئيسا للوزراء، أن عدم كونك عضوا في البرلمان يعد «ميزة كبيرة» في التعامل مع «المخاطر التي تواجه الدولة».

وسخر مونتي وباباديموس من «بطء» العملية الديمقراطية ووعد بإجراء «تغييرات رئيسية لإعادة تشكيل الاقتصاد».

وقد ظهر تعبير مناهضة الديمقراطية في أوروبا نظرا للادعاء بأن «الخبراء» فقط هم من يمكنهم حماية العالم من «أسوأ أزمة مرت به منذ الكساد الكبير».

وما قد يذكره شخص ما على أنه «وهم الخبرة» ليس جديدا، كذلك فإن الادعاء الذي يشير إلى أن الحكومة يجب أن تنتمي إلى النخب والعسكريين ورجال الدين والمفكرين والعرقيين ادعاء قديم قدم السياسة، حيث دافع أفلاطون الذي استلهم أفكاره من دروس سقراط المناهضة للديمقراطية، عن هذا الادعاء في كتابه الذي يسمى «الجمهورية» منذ 25 قرنا. وكلا الرجلين كان متورطا في انقلاب فاشل قاده السيبياديس وتأثر بالنخبة الحاكمة في إسبرطة. (وعلى النقيض من ذلك، أصر أرسطو على أن يقول المواطن العادي كلمته في جميع الأمور).

ووجدت فكرة حكم النخبة أيضا تعبيرا لها في مذهب اللينينية في شكل «ديكتاتورية البروليتارية» مع الحزب الشيوعي. وقد حلت النسخة النازية منها محل «البروليتارية» الأسطورية مع الجنس «الآري» الأسطوري.

وبعد أن انبهروا بالثورة الصناعية، حاول بعض المفكرين الأوروبيين، من بينهم إتش جي ويلز والدوس هوكسلي تجنب السياسة، وذلك من خلال تأييد «الحلول العلمية» التي يقوم العلماء بتطبيقها.

وفي السبعينات من القرن الماضي، أنشأت نخبة تكنوقراط «نادي روما»، وذلك لوضع سياسات طويلة المدى للعالم. وقد انتهت هذه العملية بمسرحية هزلية.

وفي الصين، كإحدى الثقافات غير الغربية الأخرى، تسبب حكم النخبة في قيام شبكة ماندرين التي جعلت الصين، رجل آسيا المريض، القابل للاستغلال من قبل الضواري الاستعمارية.

وفي الإسلام، تسبب السعي لتحقيق المدينة الفاضلة، في قيام سلسلة من المجتمعات السرية، بدءا من إخوان الصفا في البصرة، وانتهاء بمجموعة الحشاشين، وذلك من بين المنظمات الإرهابية الأخرى.

وقد تتسبب فكرة أن رجال البنوك أو البيروقراطيين هم أفضل الأشخاص المؤهلين لحل مشكلات أوروبا في شعور البعض بأن الدولة بنك أو شركة. ورغم ذلك، فإن محاولة إدارة المجتمعات الإنسانية بنفس طريقة إدارة البنوك أو الشركات أو محلات البقالة، هي محاولة بلهاء على أقل تقدير.

إن الغرب يدين بنجاحه التاريخي إلى تطوير نظام تسبب، رغم عيوبه الكثيرة، في حشد طاقات المفكرين في قطاع عريض من المجتمع بصورة تفوق أي نخبة محدودة. وكذلك فإن فرض حكومات بواسطة نخب قطاع العمل سيئ بنفس درجة تسليم السلطة إلى الجيش أو الفلاسفة للقيام بهذا الأمر.

ومن المحتمل أن تفشل «نخب» الحكومات. لكن قبل أن تفشل، قد تتسبب في إلحاق الكثير من الضرر من خلال السماح بفتح مجال جديد لحركات التظاهرات الاشتراكية المناهضة للديمقراطية من جهة اليسار أو اليمين المتشدد. ويجب ألا يجعلنا البكاء والنحيب على الخطر الذي يواجهه الاقتصاد الأوروبي غافلين عن خطر سياسي آخر أكثر أهمية.