الدبلوماسية العربية التي تحتاجها فلسطين

TT

منذ أسابيع، ومنذ أشهر، وكل شيء هادئ على الجبهة الفلسطينية - الإسرائيلية. حدثت ربما أزمة دبلوماسية من العيار الخفيف، كانت تتعلق بخطاب الرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة، وهل يلقيه من منبر مجلس الأمن أم من منبر الجمعية العامة. وقد تصدت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، لمنع الرئيس عباس من مخاطبة مجلس الأمن، ونجحتا في ذلك، وكان أن شهدنا توترا دبلوماسيا خلال أيام، ثم عاد الهدوء، بل وعاد الصمت، ليصبح سيد المكان.

يصر الرئيس عباس على أن يقدم نفسه كرجل سلام، وهو يعمل بدأب لتكريس هذه الصفة حول شخصه، معتقدا أن فوائد إيجابية كثيرة تقف وراء هذه الفكرة وتسندها. ومن حق أي سياسي أن يختار لنفسه الصورة التي يريد أن يظهر بها. والظهور بمظهر رجل السلام أمر إيجابي لا يمكن التقليل من شأنه، لولا أن المسألة هنا لا تقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل تتعلق أيضا بعدو إسرائيلي شرس لا يراعي أي نوع من الاعتبارات المادية أو المعنوية. وتتعلق أيضا بحليف داعم لإسرائيل هو الولايات المتحدة الأميركية، التي لديها قدرة هائلة على «البلادة الدبلوماسية»، بحيث لا تكترث بما يجري حولها.

وقد قام محمود عباس حتى الآن بأكثر من محاولة دبلوماسية لوضع هذه الصفة في مقدمة عمله السياسي، وفهمت كثير من دول العالم الهدف الذي يريد الوصول إليه، أي مناخ السلام، ومناخ عدم استخدام السلاح. لكن طرفين وحيدين أصرا على حالة عدم الفهم لما يريده عباس، هما إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، رغم أنهما تتحدثان صباح مساء عن دبلوماسية السلام، وعن دبلوماسية عدم اللجوء إلى العنف، الأولى لأنها الدولة المعتدية على أرض الشعب الفلسطيني وعلى كل حقوقه، والثانية المتحمسة دائما لدعم الموقف الإسرائيلي، أكثر من إسرائيل نفسها. وكنتيجة لهذا التقارب في المواقف، يقال كلام كثير، ويسيل حبر كثير، من دون حصول أي تقدم على صعيد «التفاوض» الفلسطيني - الإسرائيلي، ولا نقول على صعيد «الصراع» العربي - الإسرائيلي. فكلمة «الصراع» كما يبدو لم تعد محبذة في أوساط الدبلوماسية العربية.

وحين نحاول أن نفهم موقف الرئيس عباس لا نجد صعوبة في ذلك، فهو يريد أن يبرز للعالم مبدأ السلام الذي يستند إليه الموقف الفلسطيني في الصراع مع إسرائيل. وهو يريد أن يؤكد للعالم أنه رجل سلام وليس رجل حرب، لعل ذلك يحرك دول العالم للدفع باتجاه إنجاز ما على صعيد الصراع العربي - الإسرائيلي في أروقة الأمم المتحدة. لكن النتيجة كما تبدو حتى الآن لا تبشر بأي تطور يوحي بذلك، فكل اعتدال فلسطيني يواجهه استمرار في التصلب الإسرائيلي الذي يكذب على العالم ويقول إنه يؤيد الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، إنما من خلال التفاوض، وليس من خلال أي شيء آخر.

ونحن نشهد في عهد نتنياهو تصاعدا في التصلب الإسرائيلي ينسف مبدأ التفاوض نفسه، فإذا كانت صيغة التفاوض في فترة سابقة تقوم على قاعدة الانسحاب من أراضي 1967، فإن صيغة التفاوض الحالية تقوم على صيغة الانسحاب من أراض متفق عليها، مما يعني ومن دون ذكاء خارق أن حكومة نتنياهو لا تريد الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلت عام 1967، وهي ترفع في وجه ذلك شعار الانسحاب إلى حدود توفر الأمن لإسرائيل. وهذا شعار مطاط، قد يبدأ بإعلان رفض الانسحاب من القدس، وقد ينتهي بطلب بقاء الجيش الإسرائيلي عند حدود نهر الأردن. ويعني الأمران معا فشل أي تفاوض فلسطيني - إسرائيلي محتمل.

إن نقطة الضعف الأساسية في هذا الوضع تكمن في الموقف الفلسطيني. ولا نعني بقولنا هذا إدانة أو اتهاما بالتقصير في المطالب التفاوضية الفلسطينية، فهي مواقف واضحة وتعبر تماما عما يطلبه الفلسطينيون في هذه المرحلة. لكن المشكلة تكمن في طبيعة التفاوض القائم الآن.. ومنذ زمن أيضا.

التفاوض القائم مع إسرائيل حول الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967، هو تفاوض «فلسطيني». وهنا نقطة ضعفه الكبرى. فالكل يقر ويعترف، بما في ذلك الفلسطينيون أنفسهم، بأن الفلسطينيين هم أضعف طرف في عملية التفاوض، فهم محتلون ومعرضون للقمع، ومعرضون للطرد، ولكل أشكال الاضطهاد الإسرائيلي. وطالما بقي التفاوض فلسطينيا - إسرائيليا سيبقى الموقف الإسرائيلي على حاله، وسيبقى التعنت الإسرائيلي على حاله، ولا مخرج من هذا الوضع إلا بطرح صيغة جديدة للتفاوض تقوم على مبدأ التفاوض العربي - الإسرائيلي، بحيث يشكل الوجود العربي، والوزن العربي، عامل ضغط مطلوب لإحداث تغيير في مجرى المفاوضات.

ولا يعني التفاوض العربي - الإسرائيلي أن يشارك العرب في مفاوضات الفلسطينيين مع إسرائيل، إنما يعني أن يكونوا موجودين، بعددهم، وموقفهم، ووزنهم، إلى جانب المفاوض الفلسطيني.

إن الصورة القائمة الآن، ومنذ سنوات، أن الفلسطيني يطلب والعرب يدعمون مطلبه. إنها سياسة تأييد وليست سياسة مشاركة. والمرجو هو أن يصبح المطلب الفلسطيني مطلبا عربيا، لا يعبر عن نفسه بالبيانات، بل يعبر عن نفسه باستراتيجية سياسية، يحملها العرب أنفسهم إلى كل الدول الغربية الفاعلة في موضوع التفاوض، والقادرة على أن تضغط على إسرائيل. وهو ما يمكن أن يوصف في النهاية بأنه تفاوض عربي - فلسطيني مع إسرائيل، وليس تفاوضا فلسطينيا فقط.

إن الدبلوماسي الفلسطيني يتصرف حتى الآن من منطلق أنه المسؤول الوحيد عن الملف الفلسطيني، وهو لا يطلب بالتالي إلا تأييد العرب لما يطالب به. ولقد نبعت هذه السياسة أصلا من شعار «القرار الفلسطيني المستقل»، وهو شعار صحيح، لكن جرت الاستفادة منه بطريقة خاطئة. لقد رفع هذا الشعار أصلا في وجه إسرائيل، التي كانت تقول في حينه إنها تتفاوض مع العرب لا مع الفلسطينيين، ولكن الذي جرى بعد ذلك هو أن الشعار أصبح يرفع فلسطينيا - ولو أحيانا - ضد العرب أنفسهم.

لا بد أن يعترف المفاوض الفلسطيني بأنه الطرف الأضعف أثناء التفاوض مع إسرائيل، ولسبب مادي مباشر، وهو أنه محتل من قبل إسرائيل. ويجب أن يعترف المفاوض الفلسطيني بأنه يحتاج إلى الدعم العربي لمواجهة التعنت الإسرائيلي من جهة، ومواجهة الصلف الأميركي في دعم إسرائيل من جهة أخرى. ولا بد أن يعترف المفاوض الفلسطيني بأن فلسطين قضية عربية مثلما هي قضية فلسطينية.

إن «القرار الفلسطيني المستقل» هو أصلا قرار عربي وليس قرارا فلسطينيا، وقد تم اتخاذه في قمة فاس العربية عام 1974 لدعم توجه الفلسطينيين حينذاك إلى مخاطبة الأمم المتحدة، ولا يجوز الآن استخدامه في وجه العرب، وبما يضعف قوة الموقف الفلسطيني الدولية.

وقد استراح بعض العرب لهذا الموقف الفلسطيني المغلق، وبدأوا يتصرفون انطلاقا من قاعدة «حددوا ما تريدون ونحن ندعمكم»، ووصلنا بسبب ذلك إلى دبلوماسية فلسطينية، وخسرنا بسبب ذلك دبلوماسية عربية شاملة من أجل فلسطين.