مصر تنتخب.. وسوريا تنتحب!

TT

مشهدان فاصلان ولكنهما يحكيان الصورة والواقع. مصر تنتخب لأجل اختيار مستقبلها السياسي بحرية وكرامة.. خرج الآلاف من بيوتهم في ساعات الصبح الأولى ليتحملوا مشقة وعناء الوقوف في طوابير طويلة ويتحملون الطقس البارد والأمطار التي هطلت.. طوابير بلغ طول بعضها ثلاثة كيلومترات، كلهم لأجل المشاركة بأعداد «حقيقية» وليست وهمية، وذلك لتحقيق أمانة الشهادة والإدلاء بالصوت كمسؤولية مواطن له «الحق» في تقرير المصير. كان الرهان على الامتناع وعلى الفوضى وعلى التشكيك في إمكانية حدوث الانتخابات أصلا وأهمية تأجيلها، ولكن الشعب المصري راهن على وطنيته وأحسن الظن في نفسه.

والمشهد الآخر هو المشهد السوري البائس الحزين.. مشهد لنظام فقد عقله وصوابه وحكمته وشرعيته وأخلاقه، نظام بنى نفسه على الأكاذيب والأساطير وزيف الشعارات والطائفية المقيتة حتى خلف منظومة سياسية مستبدة ولكنها شديدة الهشاشة. نظام أتقن وتخصص في قتل شعبه وذله وحكمه بالحديد والنار.

سوريا ومصر كانتا دوما مرتبطتين برباط عاطفي ورمزي، منذ أيام صلاح الدين الأيوبي وتوحيده لبلاد مصر والشام لعلمه ويقينه أنهما تمثلان ثقلا مهما ومؤثرا، مرورا بالوحدة التي قامت بينهما إبان العهد الناصري، ثم حرب رمضان التي انطلقت بجهد مشترك بين البلدين. كان دوما هناك اعتقاد بأن المشهد المصري يتكرر بعد سنوات بشكل أو بآخر في بلاد الشام بخيراته وبعلله. فالحكم العسكري جرب في البلدين الارتماء في المعسكر الاشتراكي، وكذلك سياسات الإصلاح الزراعي والتأميم الاقتصادي المضلل، وطبعا شعارات الحركات القومية الفارغة والبرلمانات الصورية والانتخابات الكاريكاتيرية وحكم الاستخبارات والفساد والاستبداد والقمع والمعتقلات، وكذلك الأبواق الإعلامية المضللة والأبواق المأجورة والتدخل في شؤون الغير.. كان كل ذلك من الإفرازات التي جاد بها النظامان القمعيان في البلدين، ذاق منها الأمرين الشعب بشكل مهين ومذل. واليوم مصر تجني ثمرات ثورتها وإرادة شعبها وتخطو أولى الخطوات الجوهرية في صناعة مستقبل سياسي جدير بها، بعد أن كان يروج لها فكرة أن الشعب لا يستحق الديمقراطية، وأنه غير جاهز لها وغير قادر عليها. وسوريا هي أيضا تستعد للخلاص من نظام مستبد جاثم على صدور أبنائها لأربعة عقود لم يخلف لها سوى الذل والانكسار، ونظام سياسي قمعي ديكتاتوري، ورث الأب الحكم لابنه وتم تعديل الدستور «العتيد» في خمس دقائق إرضاء للوريث الجديد، ولم تكن علمانية النظام المعلنة في حقيقة الأمر إلا تكريسا لطائفية بغيضة ظهرت صورها الحقيقية الفجة في ثورة سوريا العظيمة الحالية الآن، وكذلك لم تكن اشتراكيته التي كان يتغنى بها ليلا ونهارا ورفعها كشعار دائم إلا أداة تمكين لعناصر الدائرة المقربة من الحكم ليتحولوا إلى رأسماليين متوحشين بلا رحمة ولا هوادة. سقطت كل الأقنعة عن نظام الأسد الوحشي ولم يعد له صديق ولا داعم إلا «قلة» على شاكلته عميت قلوبهم وماتت ضمائرهم بسبب الطائفية العفنة أو مصالح مادية حقيرة.

عدوى الديمقراطية الحميدة، وذلك المشهد العظيم في مصر آت لا محالة إلى أرض الشام المباركة، وستزف طيور الحرية من سماء الكنانة إلى بلاد الشام وتزيل عن شعبها كآبة الظلم والقهر والعبودية.

إذا كانت مصر تنتخب، فسوريا تنتحب على أبنائها ورجالها ونسائها وأطفالها الذين تحولوا إلى أرقام قتلى تحصد يوميا في مشهد إجرامي بامتياز تفوق فيه النظام الوحشي على غيره من الأنظمة المجرمة الأخرى. الفرحة الكبيرة بالمشهد الجميل في مصر لن تكتمل وتتحقق إلا بذات الاحتفال على أرض سوريا حتى تصبح الفرحة فرحتين.

أزفت الساعة، وأيام نظام بشار الأسد باتت معدودة جدا، وحبات الرمل في الساعة نفدت.

[email protected]