المغرب بعد الانتخابات التشريعية

TT

يبدو أن المغرب قد اجتاز بتوفيق اختبار رفع التحديين اللذين تحدثنا عنهما في الحلقة السابقة، ليلة الانتخابات التشريعية الأخيرة، وهما: تحدي المشاركة في الاقتراع من أجل اختيار الأعضاء الجدد للغرفة التشريعية الأولى في عهد الدستور الجديد، ضد دعوات المقاطعة التي رفعتها كل من جماعة العدل والإحسان من جانب أول، وفصائل كثيرة، هي الغالبة، من مكونات حركة 20 فبراير، وهذا من جانب ثان، فضلا عن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات التي رفعتها أحزاب من أقصى اليسار من جهة ثالثة. أما التحدي الثاني الذي يبدو كذلك أنه أمكن رفعه، فهو ذاك الذي يتعلق بإفراز قوى سياسية معقولة من حيث العدد، ومقبولة من حيث التآلف الآيديولوجي، مما يمكن من الانتهاء إلى أغلبية قوية، من جانب أول، ومعارضة ناجعة تجتمع حول رؤى متقاربة أو رؤية استراتيجية واضحة مما يسمح بإقرار حياة سياسية سليمة والدخول في عهد التوجه نحو طريق الديمقراطية الفعلية، وهذا من جانب ثان. كيف الاستجابة للتحديين المذكورين، في ضوء النتائج المحصل عليها وفي انتظار ما سيسفر عنه تطور الأحداث في الأسابيع والأيام المقبلة، يستوجب وقفة ضرورية هي التي نريد أن نجعل منها موضوعا لحديثنا اليوم.

ما القول، أولا، في المشاركة ذاتها، وما دلالة النسبة المئوية المعلن عنها، وما الدلالة بالنسبة لحركة الرفض، كما تعبر عنها حركة 20 فبراير خاصة؟

بلغت نسبة المشاركة في الاقتراع، قصد انتخاب أعضاء الغرفة البرلمانية الأولى في المغرب، 46 في المائة تقريبا. في المقارنة مع الانتخابات السابقة (2007) يسجل تقدم بنسبة 7 في المائة. متى اعتبرت كذلك، وأخذ بعين الاعتبار الدعوة إلى المقاطعة، من أصوات متعددة، كما أشرنا أعلاه، ومتى استمزجنا رأي الملاحظين الدوليين الذين راقبوا مجريات عملية التصويت، فإن النسبة تعتبر إيجابية، بل لعلها في نظر البعض جيدة، والموضوعية تقضي بالحكم بأنها مقبولة، وإن لم تكن مشرفة، ما دامت عتبة نصف المائة لم يتم تجاوزها. هي، شأنها شأن النتائج في عمومها، تعد صريحة وذات مصداقية، وهذا يعني، في عبارة أخرى، أن الشفافية والنزاهة كانتا من سمات هذه الانتخابات، وفي بلداننا يعتبر الأمر، في حد ذاته، إنجازا جبارا مع أنه من ألف باء العمل السياسي السليم.

هل تعني المشاركة، على النحو المذكور، فشلا ذريعا لدعوة المقاطعة عامة، ولحركة 20 فبرا ير خاصة؟ ربما بدت، على العموم كذلك، غير أن الملاحظ الموضوعي يجد حرجا في القطع في المسألة في جملة واحدة. فمن جهة أولى ليست الحركة على قلب رجل واحد إلا من حيث ما تحمله من شعارات محاربة الفساد في مختلف أشكاله وتجلياته، أما من حيث الوسائل، من حيث إدانة الأحزاب السياسية جملة وتفصيلا، ففي الأمر ما يجعل الاطمئنان إلى جواب واحد مدعاة للوقوع في الخطأ الجسيم. نذكر، على سبيل المثال، أن موقف حركة 20 فبراير من حزب العدالة والتنمية ليس هو موقفها من باقي الأحزاب الأخرى، بما في ذلك الأحزاب التي تنتظم في ائتلاف الكتلة الوطنية. لنقل إن في نسبة المشاركة، من جهة أولى، وفي الانطباعات الإيجابية لدى المراقبين الدوليين ومؤسسات المجتمع المدني، من جهة ثانية، ما من شأنه أن يتسبب في بعض الارتباك في موقف الحركة المذكورة. وعلى كل فإن المشاركة قد مرت في ظروف جيدة، وإن لم تكن الحملة الانتخابية ذاتها قد تميزت بدرجة عالية من الحماس، لا بل الحق أن الحملة تلك لم تكن تخلو من فتور، ولكن العبرة في النتائج على كل حال.

ما الشأن الآن بالنسبة للتحدي الثاني، تحدي إفراز كتل فعلية قوية، تحدي إبراز أغلبية تتوافر لها الحدود الدنيا من الانسجام والجدية والمصداقية، أغلبية تكون سمتها الواضحة ائتلاف عدد مقبول من الأحزاب السياسية المكونة لها من جهتي الكم والكيف؟

الحق أننا لا نملك الآن العناصر الضرورية للإجابة عن هذا السؤال، ذلك أنه يتعين علينا أن ننتظر ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة بالنسبة لنقطتين مهمتين، بل على درجة عالية من الأهمية والدلالة على التوجه السياسي للمغرب بعد انتخابات 25 فبراير (شباط) الأخيرة. النقطة الأولى تتعلق بالمسلك الذي سيسلكه حزب العدالة والتنمية في تشكيل التحالف الضروري من أجل امتلاك الأغلبية، فالتصريحات الصادرة حتى الآن (صبيحة الثلاثاء) تظل شديدة العمومية، فهي لا تتحدث إلا عن إقصاء حزب واحد من التحالف الممكن افتراضيا، هو حزب الأصالة والمعاصرة الذي لم يكف يوما عن التشكيك في توجهات العدالة والتنمية وعن القول إنه يعتبره «خطا أحمر» يستحيل تجاوزه مما جعل الحزب المغربي الإسلامي يقول فيكرر القول، إن إحدى المهام الاستراتيجية التي يتوخاها الوافد الجديد على الحياة السياسية في المغرب (الأصالة والمعاصرة) هي العمل على زحزحة العدالة والتنمية، إن لم يكن الأمر متعلقا بمحاولة اجتثاثه. والنقطة الثانية تتعلق بما يؤول إليه، واقعيا، التحالف الذي تم الإعلان عنه قبل نحو من الشهرين (التحالف من أجل الديمقراطية)، وسبق منا القول فيه والتدليل على جوانب الهشاشة والقصور التي تشوبه.

إذا كانت احتمالات المشهد السياسي في المغرب (وهذا ما عرضناه في مقالتنا يوم الخميس الماضي) تستدعي تحالفا منطقيا بين العدالة ولتنمية من جانب والكتلة الديمقراطية من جانب ثان. نقول للتذكير: تشمل الكتلة الديمقراطية كلا من حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التقدم والاشتراكية، فإن حزب الاستقلال هو المكون الذي أعلن بوضوح عن استعداده للدخول في تحالف مع العدالة والتنمية في حين أن الحزبين الآخرين، ربما لأسباب مختلفة، لم يعلنا، أو بالأحرى لم يبن أي منهما، حتى كتابة هذه السطور، عن موقف واضح عما أبانت عنه العدالة والتنمية من استعداد لتحالف يجمع حزبها مع الكتلة الديمقراطية، ومن ثم تصريحات بعض قادة الحزب الموسوم بالإسلامي عن فتح الباب أمام تحالف لا يقصي سوى «الأصالة والمعاصرة» من بين مكونات التحالف الثماني الذي تم الإعلان عنه أسابيع قليلة قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة. لنقل في لغة تجعل المعنى يكون أكثر وضوحا، إن من شأن تحالف يضم كلا من حزب العدالة والتنمية من جانب والكتلة الديمقراطية من جانب آخر، في مقابل معارضة وقودها التحالف الثماني المنعقد تحت مسمى «التحالف من أجل الديمقراطية»، إن من شأنه أن يسهم في عقلنة المشهد السياسي في المغرب، وذلك بالدفع في اتجاه بلورة اتجاهين قويين (ربما جاز نعت أحدهما بتحالف الوسط - اليسار) في مقابل تكتل (ليبيرالي - يساري). أما ما معنى ذلك فإن المخاوف تكمن في إحداث ارتباك في المشهد السياسي في المغرب، ارتباك من شأنه أن يجعل الهوة تغدو أكثر اتساعا بين المواطنين المغاربة عامة، والشباب خاصة، وهو ما يعبر عنه في المغرب بالعزوف عن العمل السياسي، وهو ما من شأنه أن يتسبب في خلط الأوراق من جديد ويحمل على إعادة نظر فيما قلنا عنه سابقا إنه الصيغة المغربية للربيع العربي، وهي الصيغة التي تحمل الكثير من أسباب الإيجابية والقدرة على ابتكار الحلول السلمية لمشكلات عويصة. أستسمح القارئ الكريم بالرجوع مرة أخرى إلى مقالة الأسبوع الماضي، حيث قلت عن تحالف افتراضي يضم ألوان الطيف كلها، إنه سيكون أسوأ الاختيارات الممكنة وأشدها عسرا في الفهم، وسيكون بالضرورة أقلها قدرة على الاستجابة العملية لمتطلبات المرحلة الراهنة. وفي كلمة واحدة نقول إنه سيجعل حزب العدالة والتنمية أمام امتحان عسير تفوق فيه أسباب الرسوب إمكانات التوفيق، وبالتالي فإن من شأنه أن يعصف بحلم جميل.

لا غرو أن السياسة تظل هي فن الممكن، غير أن العاقل يملك القدرة على الموازنة والتقدير، ومن ثم سلوك الطريق المعبد، حيث تقل المزالق والأشواك.