اللص ألماني.. والعفريت مصري.. والمعنى واحد!

TT

تتحدث ألمانيا، هذه الأيام، عن قصة طريفة للغاية، هي أن لصا في مدينة شوانيويدي، الواقعة شمال غربي البلاد، كان قد تسلل إلى بيت هناك ليسرقه، وما إن وجد اللص نفسه أمام حاضنة الأطفال في البيت، حتى رفع مسدسه في وجهها، وراح يصوبه نحو أنفها، ويأمرها بأن ترشده عمَّا يمكن أن يحصل عليه من البيت.. ارتبكت الحاضنة بالطبع، ولم تعرف ماذا عليها أن تفعل، وأثناء ارتباكها، ثم إصرار اللص على أن يخرج بشيء من البيت، علا صوتها، ومعها علا صوته هو الآخر، حتى سمعهما طفلان كانا في الدور العلوي، فنزلا معا، ومعهما «حصالة» كانا قد ادخرا فيها نقودا، وقدماها، بكرم بالغ، إلى اللص، الذي لم يحتمل الموقف، فأخفض مسدسه، وترك الحصالة للطفلين، وأعاد المسدس إلى جيبه، ثم غادر المنزل في هدوء، دون أن يلمس شيئا!

وكالات الأخبار، التي نقلت القصة، راحت تتفنن في تفسير سلوك اللص، وتتساءل عن السبب الذي منعه من قتل الثلاثة، الحاضنة والطفلين، فاللصوص، في أيامنا هذه، يفعلون ما هو أبشع من مجرد قتل حاضنة وطفلين.. ولم يقع أحد على تفسير مقنع، حتى الآن، لسلوك ذلك اللص الذي شرع في عملية سرقة، لكنه لم يتمها، عندما فاجأه الطفلان بحصالتهما، دون أن يدركا، ربما، أن ما فعلاه، سوف يؤدي إلى إنقاذ البيت والحاضنة، ثم إنقاذهما نفسيهما!

هناك من يرى - مثلا - أن اللص خاف أن يكون الصخب الذي صاحب عملية اقتحامه للبيت قد أيقظ الجيران، مع الطفلين، وأن الطفلين إذا كانا قد استيقظا على الضجيج الذي أحدثه، وهو يهدد الحاضنة، فلا بد أن آخرين من الجيران قد لفت الأمر انتباههم أيضا، وأنهم في الطريق إليه للقبض عليه، وتسليمه إلى البوليس!

وهناك من يرى أن اللص قد ظن، بينه وبين نفسه، أن والد الطفلين موجود في البيت، وأن مجيئهما بـ«الحصالة» إليه مجرد خدعة، لإلهائه قليلا، وإبقائه في البيت أطول وقت ممكن، حتى يتمكن الوالد، في هذه الأثناء، من إبلاغ الشرطة، واستقدامها في لحظة!

وهناك تفسير ثالث، هو الأقرب في تقديري، إلى الواقع، وهذا التفسير يقول إن منظر الطفلين، وهما يقدمان حصالتهما إلى اللص، قد حزَّ في نفسه، وأيقظ ضميره، وأعاده إلى فطرته التي لا تسرق، ولا تكذب، ولا تعتدي على أحد، فأرخى ذلك كله يده الممسكة بالمسدس، مما جعله يعيد مسدسه إلى خاصرته، في هدوء، ثم يشعر، بينه وبين نفسه، بنوع من الخجل، فينسحب، ويتمنى لو أنه اعتذر للطفلين، ثم للحاضنة.

أكثر من هذا، فإن تفسيرا بهذا المعنى، يشير، من بعيد، إلى أن اللص إياه قد أحس ليس فقط بالندم، على أنه فكر في الاعتداء على بيت فيه طفلان من هذا النوع، وعلى هذا المستوى من الكرم الفطري، والبراءة المجردة.. وإنما أحس اللص، في الغالب، بأن بيتا كهذا يستحق الإشفاق، والعطف، والرحمة، أكثر منه استحقاقا لأي شيء آخر؛ لذلك تراجع اللص، وانسحب، وكان في إمكانه أن يفعل العكس، بأن يكمل سرقته، ويحصل على ما يدخره الطفلان في حصالتهما، ويقتلهما مع الحاضنة، ثم ينصرف، دون أن يشعر به أحد!

القصة، على بعضها، وبأبعادها المختلفة، استدعت إلى ذهني حكاية تتكرر كثيرا على مستوانا نحن المصريين بشكل خاص، والعرب بشكل عام، وهي أن هناك في العالم من يتآمر ضدنا، ويريد أن يقضي علينا، وهو يبيت الليل كله يفكر في الطريقة التي يستطيع بها المضي في تآمره علينا، وتنفيذ مؤامراته ضدنا، بدقة، وإحكام.

تماما كما كان الشيخ محمد الغزالي يفاجأ كل يوم، بمن يأتي إليه شاكيا من أن عفريتا يركبه، أو يركب واحدا من أقربائه، ثم يريد هذا الشاكي، من الشيخ الجليل، أن يساعده في إخراج العفريت، بأي طريقة، وبأي ثمن.

كان الشيخ يتندر بهذه الحكاية المتكررة عنده، طويلا، وكان، بخفة دمه المعهودة، يضرب كفا بكف، ويقول ما معناه: لماذا يا رب تركب العفاريت المسلمين وحدهم؟! ولماذا لم نسمع عن عفريت ركب أميركيا، أو فرنسيا، أو إنجليزيا، أو أي إنسان آخر غير عربي، وغير مسلم؟! لماذا؟! وبطبيعة الحال، كان الراغبون في التخلص من ركوب العفاريت ينصرفون من حضرة الشيخ الغزالي، وكلهم خجل من أنفسهم، بعد أن يكون الشيخ قد رد إليهم بعضا من عقولهم الغائبة.

إنني أروي حكاية اللص مع الحاضنة والطفلين، ثم حكاية الغزالي مع الذين تركبهم العفاريت، لأدلل على شيء واحد، بل وحيد، هو أننا نعيش طويلا أسرى لأوهام لا وجود لها، وإذا كانت موجودة، بأي مقدار، فوجودها بيننا، وتأثيرها علينا بالسلب، راجعان إلينا نحن؛ لأننا، في كل الأحوال، مسؤولون عن إعطاء الفرصة لمن يتآمر ضدنا، ليستكمل تآمره، فضلا عن أن يبدأه أصلا.

بل يمكن الذهاب لأبعد من ذلك، والقول إن اللص الألماني إذا كان قد اكتشف، في اللحظة الأخيرة، أن البيت الذي كان قد توجه لسرقته بيت مسكين يستأهل الإحسان، أكثر من أن يستأهل أي شيء آخر.. إذا كان اللص قد أحس بهذا، فالذين يفكرون في التآمر علينا - حال وجودهم أصلا - سوف يجدون الإحساس نفسه لديهم إزاءنا، وسوف يشعرون إذا قرروا أن يتآمروا علينا، بأننا، والحال هكذا، أضعف من أن يفكروا في التآمر ضدنا، وأننا، في هذا السياق، نكاد نستحق «الصدقة».. لا أكثر!

باختصار.. لدى الذين نعتقد أنهم يتآمرون علينا ما هو أهم من ذلك لينفقوا فيه وقتهم، وإذا حدث ونجح تآمرهم ضدنا، فنحن المسؤولون لا هم.. فلا أحد يتآمر على إنسان قوي، أو مجتمع عاقل، ومتماسك، وإنما يتآمر المجتمع الضعيف على نفسه أولا، ثم يتخيل بعد ذلك أن آخرين يستهدفونه، طوال الوقت!