مصر الجديدة

TT

وقف أمام تلفزيونات العالم وشرح المسألة في محاولة قتل نجيب محفوظ على يد ميكانيكي اختصاصي في حز العجل: «كان يحرض على الإباحية ويسيء إلى الأخلاق الحميدة». إذن، الحل الأخلاقي هنا، هو أن ترسل من يقتله، بلا محاكمة، بلا سؤال، بلا استئناف، بلا نافذة إلى التوبة.

من يقول إن الصور التي تخرج من مصر بعد الجولة الأولى للانتخابات لا تفزعه، لا يدرك أنها العينة الأولى. كان الزميل فؤاد مطر، أخبر الصحافيين العرب بشؤون مصر في الستينات والسبعينات، يقول آنذاك إن الحريق المصري مثل النور المصري، لا يبقى داخل مصر.

عرف المصريون أحد أقدم وأهم العلوم، وسموه «علم قياس الأرض»، وهي الترجمة الحرفية لـ«الجيومتريا». بدأ العلم الذي لا يزال قاعدة الرياضيات في السفر إلى المريخ؛ لأن فيضان النيل كان يلغي الأملاك الخاصة ويطمر الحدود وينشر النزاعات والخلافات، فكان لا بد من طريقة تحفظ بعد الفيضان ما كان قائما قبله.

هل ما حدث في مصر تصحيح لاختلال كان كامنا منذ زمن، أم اختلال في صيغة كان لا بد منها، كي لا يضطر متظاهر إلى شرح الضرورة في قتل نجيب محفوظ؟ الذين صدقوا أن وائل غنيم وشباب الـ«فيس بوك» هم الثورة لم يكونوا يعرفون الكثير عن الثورات. وعندما كتبت أن أخطر ثورات العالم وقعت قبل العصر الإلكتروني، جاءت إلى «البريد» رسائل كثيرة، تسخر من انعدام العلاقة بين العلم وبيني.

بعدها بقليل حضر الشيخ القرضاوي إلى ميدان التحرير وسلم على الجموع ومنع وائل غنيم من السلام عليه. وبعدها كرر الشباب النزول إلى الميدان، جمعة بعد جمعة، بينما مصر تغلي وكل شيء معلق وموقوف إلا سيل المدائح بالثورة والتهافت على ادعائها. ووقف الجيش، وهو القوة والمؤسسة الفاعلة الوحيدة، مشلولا بين صبيانيات من لا يرون سوى أنفسهم، وتربصات الذين ينتظرون الساعة المحددة.

دولة مثل مصر لا تحتمل الشلل ولا الفراغ ولا العجز حتى عن تشكيل حكومة.. لا رئاسة ولا دستور ولا أمن ولا قرار في بلد كان فيه «العسكري» و«الكمسري» جزءا من روحه الطيبة وليسا صورة للشدة. تزعزع ميزان قياس الأرض. ضاعت الحدود وتداخلت. وصعق الفيضان القدرة على الرؤيا عند الجميع.

ليس من ثورة في التاريخ استطاع رجال الصف الأول فيها البقاء في أمكنتهم. من الثورة الفرنسية إلى السوفياتية إلى الجزائرية إلى الإيرانية. انسَ الذين ملأوا ميدان التحرير وشاشات التلفزيون والذين رافقوا «المسز» كلينتون في نزهتها الشهيرة بالميدان. مصر الجديدة شيء آخر.