بين «البطيخ المبسمر» و«ضراب السخن»!

TT

كلما أشاهد أو أسمع أحد التصريحات أو التعليقات الرسمية من المسؤولين السوريين عن أحداث الثورة السورية الكبرى أتذكر وأتنهد وأتحسر على أيام بثينة شعبان، وأقول: «وينك يا بثينة؟».. فالسيدة بثينة شعبان كانت تحاول، بقدر ما أوتيت من أسلوب ومهارة تواصل، تنظيف الصورة السيئة والبشعة الموجودة، وكانت تخونها لمحات الذهول والصدمة على وجهها وهي تحاول تفنيد الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية السوري بشار الأسد ولسان حالها البائس يقول «العمى!.. هادا المعلم اللي عم يحكوا عنه؟!».

واليوم وصلت التصريحات الرسمية في سوريا إلى مستوى مرتفع من خانة «غير الممكن تصديقه»، فالرئيس السوري أدلى بحديث مختصر أمام مجموعة من علماء الدين اللبنانيين الذين اجتمع بهم في قصره بدمشق، وقال لهم خلاله «إن ما يحدث في مدينة حمص هو خلاف بين بعض الطوائف على موقع سوق الهال»!!.. حمص المدينة التي ضحت بالآلاف من أبنائها وتخرج ليلا ونهارا دفاعا عن كرامة سوريا والسوريين حتى تحولت إلى عاصمة الثورة بامتياز، يتم وصف حال ما يحدث فيها اليوم بكل بساطة بأنه خلاف على موقع لسوق الهال!!

وبعدها بيومين خرج الرئيس السوري في حديث آخر لمحطة الـ«إيه بي سي» الأميركية، أجرته معه الصحافية المخضرمة باربرا والترز، قال لها فيه إنه ليس مسؤولا عن الأحداث الدموية القاتلة في بلاده، وإنه ليس ملكا حتى يكون مسؤولا عن الجيش في بلاده (وينك بثينة؟.. مشان الله قولي شي كلمة)!!

وطبعا كان هناك قبل ذلك بأيام حديث لرفعت الأسد، نائب الرئيس السوري الأسبق، يدعي فيه أنه لا يعلم شيئا عن مذبحة حماه (الجريمة الكبرى التي ارتكبت من نظام حافظ الأسد بحق شعبه في حماه وذهب ضحيتها 45 ألف مواطن). وأضاف أنه لم يذهب إلى حماه قط من قبل!!

في كل هذه المعمعة من التصريحات المتنوعة والمختلفة والتي تندرج في خانات التصريحات الواسعة وغير القابلة للتصديق أبدا، حاول أرتال من المسؤولين خلال الشهور التسعة السابقة «تبييض وتجميل» الصورة، وتوصيل فكرة أن الرئيس محبوب ومرغوب من الشعب، وأن الإصلاح قادم لا محالة، وبعدها ظهر تحويل أصابع الاتهام إلى «السلفية» وإلى «الإخوان المسلمين» وإلى «عدنان العرعور» وإلى «الجماعات المسلحة» وإلى «المندسين» وإلى «الموساد» و«الغرب».. لكن كل ذلك لم يقنع أحدا، لتأتي الآن النغمة الجديدة الأخيرة وهي «أنا لست المسؤول عما يحدث»، و«أنا لست مسؤولا عن الجيش والأمن»، و«ما معنى كلمة شبيحة أصلا؟»، وغيرها من الجمل التي تخلي المسؤولية عما يحدث مع عدم نكران حدوثه، والدخول في جدل بيزنطي عقيم مثل ضرورة التفريق بين «أخطاء» النظام وشرعية النظام.. قتل ممنهج للشعب لمدة تسعة شهور ليس بخطأ النظام لكنه خطيئة تستدعي التوبة وفورا (وينك يا بثينة؟.. دخيلك احكيلك شي).

وسط هذا الزخم يبدو أن الضحية الأكبر هو المواطن السوري نفسه، الذي يتم خداعه وتشتيته عمدا بشكل مقزز وغير قابل للتصديق أبدا، حتى بات الاختيار أمام هذا المواطن هو قبول النسختين الوحيدتين لشرح ما يحدث رسميا، وهما أولا أن كل ما يحدث هو مؤامرة خارجية، وأن سوريا بخير، وأن كل المتظاهرين مندسون، وأتباع للجماعات المسلحة، وهم عملاء للموساد والغرب.. والنسخة الثانية أن النظام لا علاقة له بأي شيء مما يحدث، وأن هناك أطرافا أخرى تقتل الشعب، وهم أتباع للجيش وللأمن، لكن كل ذلك لا علاقة للرئيس به.

كان معي مواطن سوري يستمع لكل ذلك بدهشة وأسى وحسرة، وقال محدثا نفسه بصوت مرتفع «بدنا نرضى يا بالبطيخ المبسمر أو بضراب السخن!». الاستخفاف بالشعوب واسترخاص دمائها له ثمن فادح مهما طال الزمان، والتاريخ يذكرنا بذلك يوميا ودائما، والمشهد السوري المستمر هو تأكيد لذلك مهما طال الوقت.

[email protected]