ملامح الجديد في المشهد السياسي في المغرب

TT

أحدثت الانتخابات التشريعية التي جرت في المغرب (25 نوفمبر/تشرين الثاني)، وما كان من فوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى، حركية مهمة في المجتمع السياسي. فمن جهة أولى كان عن النتائج آثار شملت التكتلات السياسية القائمة أو قل إنها بصدد الفعل البعيد فيها، ومن جهة ثانية كان فوز الحزب الإسلامي نذرا أو أمارات تحول، ربما أمكنه، في المدى القريب، أن يكون فعلا في اتجاه إفراز كتل سياسية قوية طال انتظارها، كتل تتوافر فيها الحدود الدنيا المطلوبة من المعقولية ومن الوضوح السياسي، مما ستكون له آثار إيجابية على محاربة ما يعرف في الأدبيات السياسية في المغرب بظاهرة «العزوف عن العمل السياسي»، أي قلة الانشغال بالشأن العام وبإدارته. غير أنني، قبل الوقوف وقفة اعتبار عند مجموع هذه التداعيات، أود التنبيه إلى جملة أخطاء شابت الحديث عن الانتخابات الأخيرة في المغرب. أخطاء وقع فيها العديد من المحللين السياسيين والكثيرين من كتاب صفحات الرأي، وخاصة ما كان متعلقا بالمقارنة بين ما وقع في المغرب، من فوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى وإحرازه نسبة مئوية عالية من مقاعد البرلمان المغربي الحالي، وما حدث في كل من تونس من امتلاك حزب النهضة ما يقارب 40 في المائة من مجموع المجلس التأسيسي، وما تم الإعلان عنه في الانتخابات الجزئية في مصر من الاكتساح الشامل للتيارات الإسلامية ممثلة بحزب الإخوان المسلمين في المقدمة متبوعا بحزب النور السلفي المتشدد.

لست أحب خطاب «الخصوصية» ومن ثم فإنني أرفض القول إن المغرب غير تونس وغير مصر وغير باقي البلاد العربية الأخرى. غير أن هذا الرفض لا يمنع من شيء القول بوجود معطيات ميدانية؛ تلوينات محلية تتصل بكل من التاريخ، والبنية الاجتماعية، ونظام الحكم السياسي في المغرب، مما لا سبيل إلى التغاضي عنه أو تغييبه لصالح الاشتراك في القضايا التي تتصل بالثقافة، والإرث المشترك، والدين، وهذه كلها قضايا حقيقية وصادقة. فنحن لا نقول، فنكرر القول، إنه لا سبيل إلى تحليل علمي رصين للفكر والوجود المغربيين، ولا مجال لإدراك مجريات الأحداث العظمى، في خطوطها العريضة، إلا بالنظر إلى المغرب بحسبانه جزءا من كلٍّ أشمل هو الوجود العربي الإسلامي - ومن ثم فنحن نقول، فنكرر القول مرة أخرى، إنه من العبث ألا ندخل في الحساب، حين الحديث عن المغرب حاليا، ما تعرفه المنطقة العربية عامة والشمال العربي الأفريقي خاصة (من المغرب إلى مصر دون إغفال موريتانيا بطبيعة الأمر) من حركية واجهتها الأولى هي ما نقول عنه إنه «الربيع العربي» غير أن من الخطل في الرأي أن نغفل واقعا ملموسا، حاضرا بقوة، فالبراهين عليه قوية واضحة، هو واقع «صيغة مغربية» في التعبير عن هذا الربيع، صيغة تنفعل مع ما نقول عنه إنه تلوينات مغربية محلية تتصل بمعطيات التاريخ المحلي والجغرافيا، وبنظام الحكم السياسي القائم في المغرب وبجملة الأوصاف التي تميزه والقدرات الذاتية التي يبين عن قوتها وقدرتها على المواكبة حينا وعلى استباق الأحداث حينا آخر - على النحو الذي أظهره الإعلان عن الدستور المغربي الجديد الذي تمت فيه مراجعة، تكاد تكون شاملة، لسلطات الملك وللصلاحيات الجديدة لكل من السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ما أود التنبيه إليه أولا هو أن حزب العدالة والتنمية قد حاز 27 في المائة من مقاعد البرلمان الحالي، هي نسبة عالية جدا ولكنها لا تمت بصلة إلى النسبة التي حصل عليها كل من حزب النهضة في تونس وما حصل عليه الإسلاميون في مصر وما يظهر من تسلسل الأحداث أنهم بصدد تأكيده في الانتخابات الجزئية المقبلة. من جهة ثانية يلزم التنبيه (وربما التذكير فقط) بأن حزب العدالة والتنمية في المغرب قد صار، في وجوده في البرلمان، بموجب متوالية عددية انتقل بموجبها من امتلاك سبعة مقاعد في انتخابات 1997 (في غرفة برلمانية يزيد فيها عدد المقاعد قليلا على المائتين)، إلى الحصول على 40 مقعدا في سنة 2002، ثم إلى 42 ممثلا في البرلمان سنة 2007 ليصل الآن مجموع النواب الذين يمثلون حزب العدالة والتنمية في البرلمان الحالي (397 مقعدا) مائة وسبعة. فلا وجه للمقارنة مع النهضة في تونس، حيث كان الحزب ممنوعا وكان قادته، في السنوات الثلاثين الماضية موزعين بين المنافي والسجون والعمل السري. كما لا مجال للمقارنة مع حال الإخوان المسلمين في مصر، في حكم حسني مبارك، حيث تم إقصاؤهم بالقوة والتزوير بعدما كانوا يقاربون 20 في المائة من مجموع نواب البرلمان المصري.

ثم ما أود التنبيه إليه ثانيا هو أن حزب العدالة والتنمية بصدد تأسيس ائتلاف حكومي (بعدما عهد الملك محمد السادس، بموجب الدستور الحالي، إلى الأمين العام بتكوين فريق حكومي يتولى رئاسته).

سنقول بعد قليل كلمة في الموضوع ولكننا نذكر، قبل ذلك، أنه قد صدرت عن الحزب المذكور جملة تصريحات تفيد من جهة أولى أن الحزب لا مطمح له في امتلاك عدد معلوم من الحقائب في حكومة يقترح فيها أعضاء محدودين (متى قورنت بالحكومات المغربية السابقة، حيث كان الائتلاف الواسع يستدعي ترضيات كثيرة ترجمتها كانت دوما الرفع من عدد أعضاء الحكومة). وتفيد من جهة ثانية، وهذا هو الأهم، طمأنة الفاعلين الاقتصاديين وكذا طمأنة الحلفاء الطبيعيين للمغرب من الدول الغربية على استمرار السير في خط الاختيارات الكبرى للمملكة اقتصاديا وسياسيا. وتقيد، من جهة ثالثة، التأكيد على الفصل التام بين المجالين الدعوي والسياسي (والمزج بينهما هي التهمة التي لم يكف خصوم العدالة والتنمية في المغرب عن رفعها). وقد تجدر الإشارة إلى أن الأمين العام للحزب المذكور سبقت له المبادرة، قبل الانتخابات ذاتها، بالاتصال بكونفدرالية رجال الأعمال بالمغرب، بل إنها تعد نقطة امتياز إيجابية لحزب بنكيران أن الحزب كان، في وقت ما، الوحيد الذي استجاب لدعوة رجال الأعمال الكبار إلى الظهور في ندوة علنية تتناول الشغل والاقتصاد في البلاد. مثلما يسجل للأمين العام للحزب المذكور أنه قد توجه إلى مقر البورصة في الدار البيضاء وأنه شارك في ندوة علنية نجح فيها، فيما يبدو من التعليقات، في طمأنة قطاع واسع من رجال الأعمال الكبار في المغرب على المستقبل الاقتصادي للبلاد في ظل حكومة يقودها الإسلاميون.

ما نريد أن ننتهي إليه هو أن عند الإسلاميين في المغرب، على النحو الذي ينتظم فيه شمل دعاة الوسطية والعقل والاعتدال في حزب العدالة والتنمية، وعي كبير بوجوب وجود سلطة تنفيذية تشاركية تعكس النسبة المئوية التي حظوا فيها بثقة الناخبين المغاربة. ووعي، فيما يبدو من قرائن الأحوال، بوجوب المرونة في توجيه دفة الحكم وفي ترجمة الشعارات الإصلاحية التي كانوا حملة ودعاة لها عقودا ثلاثة متصلة (محاربة الفساد، تخليق الحياة العامة، العدالة الاجتماعية، إصلاح التعليم، إحداث مناصب شغل، العمل على الرفع من معدل النمو الاقتصادي) إلى قرارات حكومية دقيقة، واضحة، وقابلة للتنفيذ - وبالتالي خوض تجربة الحكم وامتلاك زمام السلطة التنفيذية.

حديث النسبة إلى المعطيات والأرقام استغرقنا، فليس يتسع المجال لنا اليوم للقول في المشهد السياسي المرتقب في المغرب وإن كنا قد لمحنا إلى مقدماته، فنحن نضرب لأنفسنا موعدا في الحلقة المقبلة بإذن الله.