الديمقراطية.. والصندوق

TT

صندوق الانتخابات آلية ضرورية في النظام الديمقراطي، سواء كان ذلك النظام برلمانيا أو رئاسيا. ذلك لأن الانتخابات هي الوسيلة الأساسية لمعرفة رأي المواطنين في من يمثلهم، سواء في البرلمان أو في رئاسة الدولة إذا كان النظام جمهوريا. نصادف ذلك - أي آلية الانتخابات - في المملكة المتحدة حيث النظام برلماني تماما، ونصادفه في الولايات المتحدة الأميركية حيث النظام رئاسي، ونصادفه في فرنسا حيث يوجد نوع من النظام الديمقراطي البرلماني مع بعض الملامح الرئاسية في ما يتعلق بسلطات رئيس الجمهورية.

حتى في البلاد التي يوجد فيها بعض صور الديمقراطية المباشرة نجد صندوق الانتخاب آلية أساسية من آليات معرفة رأي المواطنين كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية الأخرى التي تقوم أساسا على فكرة التعددية الحزبية وتداول السلطات بين الغالب والمغلوب.

من هنا يتحتم وجود هذه الآلية - الانتخابات الدورية - في كل الأنظمة الديمقراطية، ولكن السؤال الذي أريد أن أطرحه في هذا المقال هو: هل صندوق الانتخاب وحده هو ما تتحقق به الديمقراطية، أم أنه إذا كانت الانتخابات حتمية وضرورية فإنها أيضا ليست كافية وحدها لوجود النظام الديمقراطي الأمثل؟ ويدعوني إلى طرح هذا التساؤل، الذي أتصور أنه هام، بعض التجارب التي تمر بها بلاد ما يقال له الربيع العربي، حيث زال نظام وجاء نظام آخر بديل. صحيح حدث ذلك التغيير عن طريق الثورة وليس عن طريق الصندوق لأن الأنظمة الاستبدادية لا تتغير إلا بكسرها، على حين أن الميزة الكبرى للنظام الديمقراطي أنه قادر على تصحيح نفسه من داخله عن طريق معرفة آراء الناخبين في حكامهم عن طريق صندوق الانتخاب.

هذا صحيح ولكن هل صندوق الانتخاب وحده قادر على تحقيق الديمقراطية؟ هذا هو السؤال، أو هذا هو مربط الفرس كما يقولون.

حتى يكون هناك نظام ديمقراطي حقيقي فهناك عدة أمور تسبق العملية الانتخابية، وهناك عدة أمور تصاحب هذه الانتخابات. وبغير هذه العوامل السابقة أو المصاحبة لا يتحقق النظام الديمقراطي الأمثل. فما هي العوامل السابقة وما هي العوامل المصاحبة؟

أما العوامل السابقة التي تفرخ نظاما ديمقراطيا سليما فهي متعددة، منها أن تنمو في المجتمع ثقافة الاعتراف بالآخر وثقافة الحوار، وهما أمران متلازمان، حيث توجد سياسة إقصاء الآخر وعدم الاعتراف به وتصور أنني وحدي من يمتلك الحقيقة ويملك القول الفصل وأن غيري على ضلال لمجرد أنه يخالفني في ما أعتقد. مثل هذا الجو إذا تغلب على مجتمع من المجتمعات فإن بناء النظام الديمقراطي فيه تواجهه عقبات وصعوبات عدة. كذلك فإذا غابت ثقافة الحوار ولم يصغِ كل منا للآخر ويحاول أن يفهمه ثم يرد عليه إن لم يكن مقتنعا بما يقوله فإن مثل هذا المجتمع سيكون قبوله للنظام الديمقراطي منقوصا.

وقد يزيد البعض ويقول إنه لا بد من قدر من التغلب على الأمية التعليمية والأمية السياسية، كذلك لا بد من أن تضيق الهوة الاقتصادية بين كبار الأغنياء والمطحونين في المجتمع. ورغم وجاهة هذا الرأي فإنني أتصور أن فيه قدرا من التزيد الذي قد يعقد الأمور في طريق الأخذ بالديمقراطية.

هذا عن العوامل التي تنضج النظام الانتخابي وتجعله أقرب ما يكون للتعبير الحقيقي عن إرادة الجماهير الشعبية التي هي أساس الديمقراطية. وأما العوامل المصاحبة لصندوق الانتخاب وللعملية الانتخابية فقد تكون عوامل إجرائية ولكنها أيضا مهمة في الكشف الحقيقي عن إرادة الناس. من ذلك إجراء الانتخابات بمعرفة جهة محايدة لا تنتمي إلى حزب من الأحزاب ولا إلى فريق دون فريق. وقد يكون القضاء هو الجهة المرشحة بحكم طبيعتها لتولي هذه المسألة، أي أن تكون الانتخابات تحت إشراف قضائي تفترض فيه النزاهة والحياد.

ولكن هذا الشرط رغم أهميته القصوى في بلاد مثل بلادنا انعدمت فيها ثقة الناس بعضهم في بعض، فإنه غير متحقق في كثير من البلاد التي نضج فيها النظام الديمقراطي نضجا كبيرا مثل الهند، حيث تجرى الانتخابات في ظل مؤسسة محايدة يدخل فيها العنصر القضائي ولكنها تتكون في أغلبها من غير القضاة. ولكن أعود فأقول إن الإشراف القضائي على العملية الانتخابية في بلادنا قد يكون هو الضمان الوحيد لها. كذلك عن الأمور المصاحبة للعملية الانتخابية التي تؤدي إلى فاعليتها أن تكون هناك حرية للدعاية الانتخابية، وأن يكون هناك سقف للإنفاق المالي، وأن ينمو وعي المواطنين بضرورة المشاركة في الانتخابات.

وأعود فأقول إن صندوق الانتخاب وإجراء انتخابات دورية أمر حتمي وضروري ولازم لأي نظام ديمقراطي، ولكن هناك عوامل سابقة وأخرى مصاحبة تجعل العملية الانتخابية أكثر دقة في تعبيرها عن إرادة المواطنين.

وفي الختام أقول إن النظام الديمقراطي الذي يؤمن بإرادة المواطنين هو وحده النظام القادر على إنضاج كل هذه العوامل.

الديمقراطية هي خير مدرسة للديمقراطية. والديمقراطية هي النظام الذي يقدر على تصحيح نفسه من داخله عن طريق الاختيار وإعادة الاختيار والخطأ ثم تجنب الخطأ.

تعالوا نتكاتف جميعا على بناء الديمقراطية التي يستحقها الشعب العربي ومصر في القلب منه.