لم يأت حتى في رسائله

TT

لم نعد في عصر أدب الرسائل. الزمن فقد بطأه الجميل، والبريد صار متحفا لطوابع البريد، والحبر لم يعد يباع في المكتبات، والبديل هو الرسائل النصية التي تشبه لغة اللاسلكي في الأيام الأولى لاختراعه. «رسائل» صامويل بيكيت الواقعة في أكثر من 600 صفحة، قد تكون آخر الأحداث في هذا النوع من الأدب.

لكن رسائل بيكيت لا تساعد على الإفصاح عن صورة الرجل الغامض والمبتعد، التي أرادها لنفسه، بحيث تتشابه سيرته مع نتاجه. أهم ما اشتهر به بيكيت هو مسرحية «في انتظار غودو»، الذي لا يأتي أبدا. وغودو كان أحد رفاقه في المقاومة الفرنسية ضد النازيين. رفض بيكيت في حياته أي جائزة وأي لقاء وأي ظهور، وترك لمن يريد وضع سيرته، رواية «مولوي» و«غودو» وهذه الرسائل الضخمة.

حرص جميع الكتّاب، حتى قبل أن يعرفوا ما سوف يكون عليه حجمهم في آداب العالم، على ألا يتركوا لفضول واضعي السِيَر إلا ما يختارون. وحاولوا إخفاء فصول الضعف والتعثر والبؤس. وأحرق تشارلز ديكنز كل ما عنده من وثائق وجعل أولاده يشوون الكستناء على نارها. وترك القليل لصديقه جون فوستر، الذي استأمنه وحده على وضع سيرته.

عبَّر محمود شاكر بوجدانية صافية عن هذا الشعور لدى الأدباء، عندما قرر أن يحذف هو من حياته عقدا كاملا من الزمن بدل أن يترك ذلك لرحمة النقاد وسفول النوايا. كتب يقول: «أعلم أني قضيت عشر سنوات من شبابي في حيرة زائغة وضلالة مضنية وشكوك ممزقة، حتى خفت على نفسي الهلاك، وأن أخسر دنياي وآخرتي. فمنذ 1929 إلى أن بلغت السابعة والعشرين سنة 1936، كنت منغمسا في غمار حياة أدبية بدأت أحس إحساسا مبهما متصاعدا أنها حياة فاسدة من كل وجه».

أراد شاكر أن يعفي معاصريه وأخلافه من مهمة التلذذ كالعلق. وحاول آخرون، بشيء من التعمد، أن يرووا سيرتهم بكل فصولها، كما فعل همنغواي، الذي انتحر بالبندقية التي كان يصطاد بها النمور في «تلال أفريقيا الخضراء». لكن همنغواي كان أيضا حاسما في رفض السلوك الرديء في حياة الكتّاب، وقد دعا إلى «الحظر» على بعض أشهرهم، باعتبارهم مثالا سيئا.

أشعر أحيانا بسذاجة بالغة عندما تمنعني نفسي من قراءة كاتب سيئ السيرة، مهما بلغت عبقريته. لكن ذلك لا ينطبق على الجميع، وإلا لبقي القليل نقرأه في الآداب العالمية. غير أنه لا يمكن للسيرة الرديئة إلا أن تترك أثرا في النفوس، ولذلك حرص عظماء مثل ديكنز على إحراق أسرارهم الصغيرة وشي الكستناء بنارها. لقد أحسنوا إلى أنفسهم، وحاولوا تخفيف الإساءة عنا.