حفيدات بورقيبة والنقاب

TT

على أثر اندلاع الثورة التونسية يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، شهد الفضاء العمومي التونسي عدة تغييرات على مستوى إظهار العلامة الدينية، سواء تعلق الأمر بإطلاق اللحى أو تزايد أعداد المحجبات وأيضا غزو بعض التونسيات الفضاء العمومي وهن منتقبات. مع العلم أن المقصود من استعمال كلمة «غزو» دلالة النقاب الرمزية في الفضاء الاجتماعي الثقافي التونسي، حيث إن عدد المنتقبات لم يرتق بعد إلى مستوى الظاهرة بقدر ما هي بضعة أعداد قليلة و«الحجاب» أكثر «الحجب» هيمنة وانتشارا في الممارسة الدينية المظهرية لدى التونسيات.

ورغم أن ارتداء بعض الفتيات الشابات للنقاب شكل صدمة في أول الأمر، فإن ظروف المرحلة الانتقالية وتشتت الاهتمامات والمشاكل، وخصوصا الحرص على عدم افتعال أي معركة أو جدل ذي طابع ديني سلفي، لم يجعل موضوع النقاب يتصدر النقاشات والحوارات.

وأغلب الظن أن الكثيرين تعاطوا مع هذه المسألة بوصفها ظاهرة ضيقة ظرفية وأنها نتاج سنوات المراقبة الأمنية الشديدة على الحياة الدينية الخاصة للتونسيين، أي إنها عبارة عن تعويض ورغبة في الذهاب إلى الأقصى في الممارسة الدينية دون تمييز بين السلوك المعتدل والآخر السلفي المغالي في فهم الدين، خصوصا إذا كان ذلك الفهم في قطيعة مع الخصائص الدينية والثقافية للبيئة الاجتماعية التونسية، ومن ثمة فنحن أمام استيراد لممارسة دينية.

لقد تحول النقاب في تونس في الأيام الأخيرة من ممارسة قليلة التواتر مسكوت عنها إلى موضوع ساخن تسبب في أحداث ساخنة لا تزال نيرانها المجازية تفعل فعلها. ويعود ذلك لأن المنتقبات انتقلن إلى الطور الثاني من جس النبض ومن المواجهة، أي محاولة فرض النقاب داخل الجامعة التونسية، وهي المحاولة التي تصدى لها الجهاز التربوي في تونس عن طريق قرار منع ارتداء النقاب في الجامعة والمعاهد لتعارضه مع جوهر العملية التربوية وشروطها القائمة على الاتصال والتواصل وجها لوجه بين الطلبة والأستاذ.

إلى جانب رفض المنتقبات ومناصريهم لقرار وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي وما تبعه هذا التعبير عن الرفض من عنف، رد عليه أساتذة التعليم العالي بإضراب والدفاع عن استقلالية الفضاء الجامعي التونسي، وقطع الطريق أمام كل محاولة لعودة الأمن إلى الجامعة، فإن النخبة الحداثية لم تتوان في التعبير عن خيبتها من العنف أولا ومن النقاب ثانيا.

وفي ضوء هذه المعركة الجديدة، يمكننا أن نستنتج أن حسم معركة الحجاب وإدراجها في مجال الحرية الشخصية قد فتح المجال لنشوب معركة أخرى وهي معركة النقاب. والظاهر أن أصحاب هذه المعركة يوظفون مسوغات معركة الحجاب ويديرون معركتهم في إطار مبدأ الحرية الشخصية أيضا وهي الحرية الأوسع والأكثر إرباكا، خاصة عندما تسود ثقافة «أنا حر» بطريقة تعكس مراهقة ذهنية في فهم الحرية وجوعا كبيرا إلى كل ما كان ممنوعا وكأن كل ما هو ممنوع مرغوب ويستحق رغبتنا.

قد يبدو شعور الكثير من التونسيين بالخيبة إزاء حالة تراجع المعيش الاجتماعي لبعض الشابات خاصة الطالبات منهن، مسألة مبالغا فيها وضجة لا معنى لها. غير أن وضع المشكلة في سياقها، أي في جغرافيتها التونسية التاريخية والثقافية، ربما يجعل من الشعور بالخيبة مفهوما أكثر. فالكل يعرف أن جوهر الحداثة في تونس وعنوانها وقلبها النابض هي المرأة. ولا أدري ما هو رأي السيدة المناضلة حبيبة المنشاري التي دعت يوم 9 ديسمبر 1929 المرأة التونسية إلى السفور في عز الاستعمار وسلطة التقاليد والهيمنة الذكورية في هذه المجموعة من التونسيات المنتقبات حتى ولو كان عددهن قليلا؟

بل ما هو تعليق الزعيم الحبيب بورقيبة إذا رأى بعض حفيداته التونسيات يضعن النقاب؟ نعم، هناك خيبة، وهناك أيضا ما يبرر هذه الخيبة وما يستوجب الحوار دون حدود، حتى نفهم ما الذي يجعل شابة وطالبة تونسية حفيدة شرعية بكل المقاييس للطاهر الحداد ولبورقيبة أن تقرر فجأة ودون مقدمات وضع النقاب؟