مستقبل الخليج العربي.. من خلال «الاتحاد» المأمول

TT

أمد العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، مجلس التعاون الخليجي بعافية جديدة تتجاوز الحاضر إلى المستقبل، وذلك باقتراحه الاستراتيجي الكبير الذي يقضي بتحويل مجلس التعاون إلى «اتحاد»، وهو اقتراح تبنته القمة الخليجية، حيث تكونت لجنة تعنى بصيرورته إلى الواقع التطبيقي.

وثمة عوامل وأسباب واعتبارات كثيرة تغذت وتكونت منها رؤية العاهل السعودي هذه:

1) هو دوما يمد البصر إلى الأمام.. إلى الغد.. إلى المستقبل مدا إذ يتعامل مع الواقع الراهن، ويفسح للمستقبل مساحة واسعة من الرؤية والتخطيط والتفاؤل.

2) إنه رجل «جاد» يأخذ الأمور مأخذ الجد.. وحين شعر - كما جاء ذلك في كلمته - «أن أمن الخليج واستقراره مستهدفان»، فإن أول خطوة في مواجهة هذا الاستهداف المشترك أن يتحد أبناء الخليج في كيان واحد، إذ إن المخاطر لا تستثني منهم أحدا.. وهذا بلا شك جد من الجد.

3) إن دول مجلس التعاون قد استظهرت عوامل الاتحاد كافة؛ فعلى الرغم من التباين الثقافي والعرقي واللغوي بين دول الاتحاد الأوروبي، فإنها كونت اتحادا يحفظ مصالحها المشتركة، وأمنها المشترك.

وبديهي أن الدول الأقل تباينا، أو التي لا يوحد بينها مثل ذلك التباين هي الأجدر (بكل مقياس) أن يقوم بينها اتحاد متين يحفظ مصالحها، ويصون أمنها:

أ) فالدول الخليجية الست تتماثل في الجغرافيا البشرية، أو المجموعات السكانية. فالناس في السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان متجانسون، وكثير منهم ينتمي إلى قبائل مشتركة.

ب) المسرح الجغرافي لهذه المجموعات السكانية المتجانسة هو مسرح متشابك مفتوح بعضه على بعض. ولئن كان هذا الانفتاح الجغرافي خاصية قديمة في تاريخ المنطقة، حيث كانت القبائل تنتقل من بقعة إلى أخرى بحرية وكثافة ومداومة، فإن وسائل المواصلات الحديثة قد زادت هذا الترابط السكاني قوة، وزادته انفتاحا وانسياحا.

ج) مواطنو الدول الخليجية الست يتحدثون «لغة واحدة» هي اللغة العربية. وهذه حقيقة مؤصلة دستوريا، إذ نصت دساتير هذه الدول كافة على أن اللغة العربية هي اللغة الأم في السعودية والبحرين والكويت وقطر والإمارات وعمان.

وعامل اللغة هو عامل حاسم ومهم في نشوء أي اتحاد، وفي استمراره.

د) الجذور العقدية والثقافية والحضارية لمواطني الدول الست هي جذور مشتركة بلا نزاع.

وإذا كانت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة (مارغريت ثاتشر) قد تحفظت على «الاندماج الثقافي» في أوروبا، وعللت تحفظها بأن لبريطانيا ثقافتها الخاصة، فإن مثل هذا التحفظ لا مجال له في منظومة دول الخليج العربي الست.. لماذا؟ لأن هذه الدول «مندمجة فعلا» في الثقافة العربية الإسلامية المشتركة، إذ هي ثقافة كل شعب من هذه الشعوب في حقيقة الأمر. وما كان خاصية لكل شعب، فإنه لا يخشى عليه من الذوبان في خصائص أخرى. والسبب جد بديهي وهو أنه لا تناقض ولا تعارض بين الخصائص الوطنية من جهة، والخصائص الخليجية العامة من جهة أخرى.

هـ) أنظمة الحكم في هذه الدول الست هي أنظمة متماثلة تقريبا، وهو تماثل من شأنه أن ينفي الصراع فيما بينها، وبانتفاء الصراع تقوى أواصر الاتحاد المقترح والمرتقب قيامه.. نعم. قد ينشأ خلاف على هذه القضية أو تلك، مثل قضية «الحدود»، بيد أنها قضية قد سويت تقريبا، مما يعزز بنى الاتحاد منذ نشأته.

ز) الموارد الرئيسية لهذه الدول متطابقة، وهي «طاقة النفط». وبالتالي فإن مصادر الدخل متطابقة أيضا. وهذا اعتبار يوجب «الاتحاد» في مواجهة المخاطر التي تهدد موارد الطاقة، ومصادر الدخل.

ونقول: إن هذه القضية وحدها تستوجب الاتحاد المتين بين هذه الدول الست.

لماذا؟

لأنه على الرغم مما يشاع ويذاع، فإن حاجة العالم كله تتزايد إلى طاقة النفط. ومهما قيل من تفسيرات للصراعات الإقليمية والعالمية في السنوات الأخيرة، فإن هذه الصراعات إذ تأخذ عناوين وأغطية شتى، فإن قسطا كبيرا جدا منها يدور حول طاقة النفط.

ولما كان الخليج يزخر بأعظم مخزون نفطي، فإن الصراع فيه وحوله لا يكاد ينتهي. وهو صراع ليس من مصلحة هذه الدول الست. ولذلك فإن الضرورة النفعية المادية الحياتية تستدعي مواجهة هذه المخاطر بـ«استراتيجية متحدة»، أول بنودها: النأي - قدر الإمكان - بطاقة النفط الخليجية عن الصراعات المدمرة؛ فقد ثبت أن هذه الصراعات تستهلك «زبدة» الطاقة النفطية، أي تستهلك عائدات النفط على نحو يعطل التنمية والتقدم والنهوض في هذه الدول، وينشئ - من ثم - تذمرا بين الشعوب التي تطالب بحاجاتها المشروعة في التنمية والتقدم والنهوض؛ من تعليم وسكن وصحة وحياة طيبة.

ومها يكن من أمر، فإن نجاح الاتحاد المقترح يعتمد - بعد قيامه - على سطوع الرؤية الاستراتيجية ومتانتها وبعد نظرها في التخطيط له، ولعل من ملامح هذه الرؤية، التصميم الجمعي على مهمة التطوير والتجديد، وهي مهمة ممكنة جدا، في ظل الأطر القائمة نفسها. فنحن مقتنعون بأن التجديد مستطاع في ظل الإطار القائم، طالما أن ليس في هذا الإطار القائم نص دستوري يمنع التجديد «!!!». كما أننا لسنا من المقتنعين بأن التجديد يتطلب «ثورة» بالضرورة. ذلك أن الثورات نفسها قد تنتكس، وقد تأتي بأسوأ مما هو موجود، ولكن من الأمانة التامة مع قومنا أن نقول: إنه لا يغيب عن عقل مستنير أن الركود مع وجود دواعي التجديد الحقيقي والضروري يفوت المصالح، ويشل التفكير عما يجب التفكير فيه.. وقد تصيب هذه العلة الخطرة دولا بلغت مراحل عليا من التقدم.. يقول جاك أتالي الرئيس السابق للبنك الأوروبي للتعمير والتنمية: «إن الأميركيين يرفضون تصديق أنهم قد شرعوا في التخلف عن معظم الأجزاء المتقدمة في العالم الصناعي، وأنهم بسبب هذا الاعتقاد لم يحدثوا التجديدات اللازمة ليحافظوا على قدرتهم التنافسية، فليس هناك من يستطيع أن يحل مشكلة يرفض أن يراها». على أنه من أولويات الاستراتيجية الخليجية المتحدة رسم خريطة عملية للتخلص الناجز من مشكلة «البطالة الوطنية»، والمعالجة الفاعلة لقضية العمالة الوافدة، فهاتان (في حقيقة الأمر) قنبلتان اجتماعيتان موقوتتان، ثم من ضمانات الاتحاد أن لا يهدد ولا ينتقص من سلطان ذي سلطان من الملوك والأمراء والشيوخ.