التحدي الذي يواجه السعودية

TT

قبل عشر سنوات نشر الكاتب الأميركي توماس فريدمان مقالا عن التحدي الذي تواجهه السعودية، ذكر فيه أن استدامة ازدهار المملكة تتوقف على حفر آبار العقول وليس النفط، من خلال بناء نظام تعليمي قوي ينتج عنه خريج يستطيع أن يكون ثروته باستخدام عقله.

شهية الكُتاب في الغرب والشرق مفتوحة على مصراعيها لتناول قضية الإصلاح في السعودية، الموضوعات برائحة زكية تغري بالنقاش والتداول وطرح التوقعات والظنون. وفي هذه الأيام زاد الموضوع متعة أن السعودية بالرغم من أنها في منتصف المناطق الساخنة بالفوضى والاضطرابات السياسية، وتعيش وسط عالم أوسع يمر بأزمة مالية خانقة، فهي تتحدث عن قفزة اقتصادية، وزيادة في الناتج المحلي، ومناخ استثماري ممتاز، وسيولة كبيرة في السوق، والسعوديون ينتظرون ميزانية بأخبار سعيدة.

تتعدد موضوعات الإصلاح في السعودية، إلا أنها لا تخرج عن أربعة مواضيع رئيسية وهي: حال المرأة، الخدمات العامة وعلى رأسها التعليم، مكافحة الفساد، والبطالة.

وضع المرأة السعودية في تحسن مستمر، وإن كان بطيئا، السعوديات كن يتمنين الفرج في أمور متناثرة، اجتماعية واقتصادية، لم ينصفن فيها، فوجدن أنفسهن في موقع يتيح لهن المشاركة في صنع القرار على مستوى الدولة، وأعني إتاحة عضويتهن لمجلس الشورى. الحكومة أنفقت مئات المليارات خلال العام الحالي في تحسين الأوضاع المعيشية والوظيفية للسعوديين، كما أن الإنفاق في التعليم هائل لا يشابه أي دولة في العالم، والوزارات المرتبطة بموضوع البطالة تبتكر الأعاجيب من الخطط لتحجيم المشكلة، وقد نجحت نسبيا، ولا قلق بعيد المدى من هذا الجانب. كل هذه الأمور وإن بدت قضايا كبيرة وعميقة ومعقدة إلا أن إمكانية التحكم بها يجعل تفكيكها في المتناول، اليوم أو غدا.

أين المشكلة إذن؟

دعوني أقول لكم إن التحدي الحقيقي الذي يواجه السعودية اليوم هو مقاومة المجتمع للتطوير. فالتغيير أمر مخيف، أما الرتابة ففيها طمأنينة مبعثها التكرار، والإنسان عدو ما يجهل، وقد يكون أشد عداوة لما يعلم، وعبر التاريخ كل من قاد أمر التغيير أصابته سهام مقاومة مجتمعية قاسية بحجم صعوبة التغيير.

وحتى لا يكون الرأي عاما، والرأي العام يبدو غالبا أحمق، فإن المجتمع هنا فئتان؛ العامة من الناس، والمثقفون، وما أراه كمراقب أن عامة الناس أكثر تقبلا للتغيير من المثقفين، لأسباب معقولة. عامة الناس لا تحمل أجندات فكرية، التغيير لديها يعني أن تتحسن أمورها الحياتية، أن تصبح أكثر راحة وأمانا في الحاضر والمستقبل، لا تفلسف الأمور ولا تبحث في التفاصيل، عامة الناس رؤيتهم بسيطة للأشياء، لذلك حكمها عليها يكون من خلال المخرج النهائي، وهذه ليست سذاجة بل براغماتية محمودة.

المثقفون هم أهل الرأي والتأثير، وليسوا على قلب رجل واحد، بل على قلوب كثيرة ومتفرقة، هؤلاء أصحاب الأجندات الخفية والمكشوفة، هم الذين يتفحصون النوايا والعقول، وهم فعليا يقودون جماعات كبيرة ويتحكمون في تقبلهم أو رفضهم لأي تغيير قد يحصل في الاتجاه السلبي أو الإيجابي من وجهة نظرهم.

لم يكن للمثقف السعودي في السابق تأثير يذكر على الجماعة، الافتقار لقنوات التواصل وشح القراءة والاطلاع جعلت المثقف يغرد خارج السرب بكل أفكاره التي قد تضيف أو لا تضيف لتطور المجتمع، فانحسر تأثيره على قلة أتيح لها السفر والاختلاط العميق، ولكن منذ تسعينات القرن الماضي ومع التسارع في تطور وسائل التواصل أصبحت الأطروحات الفكرية على مرأى من الناس، المثقف السعودي اليوم تأثيره يتجاوز ما كان يحلم به. أحيانا لا أود أن أسميهم مثقفين لأنهم ليسوا كذلك بالإجمال، ولكنهم أصحاب رأي وتأثير، فالمثقف في أميركا شخص مطلع أفقيا وله عقيدته العمودية العميقة، وأمثال هؤلاء قلة نخبوية في العالم العربي، وأقل في السعودية، لكن الساحة كما نراها اليوم يهيمن عليها المتخصص صاحب البعد الواحد، الذي يعمل بجد ليعزز حضور رؤيته الشخصية دون أن يكون مطاطا ليمتد إلى مساحات المختلفين عنه.

ربما ليس من المفيد التشعب في هذه التصنيفات، ولكن من المفيد القول بأن النخبة المؤثرة في المجتمع السعودي اليوم تعيش حالة من العراك الداخلي، وهي حالة صحية، فحينما تعلق الجرس ستستفز الجلبة والحراك، وهذا أمر مشروع يحصل كل يوم في بلدان العالم المتحضر، وما تفعله القيادة السياسية بأن تراقب من بعيد دون أن تتدخل هو فعل حكيم، كمراقبتها للسوق الاقتصادية وتدخلها فقط لإنقاذها في الأزمات. أما المجتمع، فأكبر أزمة قد تواجهه وتستدعي تدخل الدولة هو التراجع للخلف في أي جهة من جهات الإصلاح التي ذكرتها في بداية هذا المقال نتيجة للمضاربات الفكرية أو تقديم مصلحة الفرد على الجماعة.

القيادة العليا تعمل مقاربات لتحافظ على النظام العام والصحة العامة والسكينة، كما هو دورها المعروف في سائر الدول، ويندرج تحت هذه المهام ضرورة تدخلها بإصدار قرارات ترسم حدودا في موضوعات جدلية لو تركتها للمجتمع للفظها، لأنها عسيرة الهضم عليه.

* كاتبة سعودية

[email protected]