جينات السرقة

TT

وصلتني تعليقات كثيرة على مقالتي «لا داعي للقلق» وما قلته فيها عن ذيوع السرقة بين ساستنا. من السويد، يلوم نزار البياتي العلمانيين على وقوفهم على التل ويتهمهم بالجبن. الحقيقة أنني معهم في ذلك وأعتقد أن خير نهاية للأحزاب الدينية السياسية هي ما سبق وقلت. أعطهم ما يكفي من الحبل لشنق أنفسهم. ففشلهم المحتم سيؤذن بنهايتهم. ففي العراق بدأ الناس ينفضون عنهم بعد ما شاهدوا أمامهم ما يجري ووصفه السيد عامر حردان. الملاهي الليلية مفتوحة حتى الصباح تحرسها الشرطة وميليشيات الأحزاب الدينية، ناهيك عما جرى ويجري من سرقات. ويدعونا السيد أبو نجم من السودان ويقول تعالوا وتفرجوا على ما فعله الإسلاميون هناك.

انتشار السرقة بيننا أخذ يوحي لي بأننا ربما ورثنا جينات تجري في دمائنا وتحركنا لممارستها، بما جعلني أفترض أن الحكام الجدد من الإسلاميين وغيرهم سيغوصون في الفساد مثل سلفهم. فقد أصبحت غريزة فينا مثل الغريزة الجنسية. وكما نغفر للزناة أصبحنا نغفر للحرامية فلا نعتبر سرقاتهم عيبا. نتهالك على تزويجهم بناتنا لما عندهم من ثروة ونحن نعلم كيف كسبوها بالحرام. كم وكم من الحرامية أجده على المنصة يلقي محاضرات عن الإصلاح العربي ومكافحة الفساد. تنفضح سرقته ورشوته ولكننا نجده بعد أشهر محافظا للبنك أو مديرا لمكتب المقاولات والعقود.

السر في ذلك هو التراث. نحن نعتز بعنتر العبسي ونعتبره بطلا ونحن نعلم أن بطولته انحصرت في غزو الآخرين وسلب إبلهم وغنمهم. ففي المجاعات التي اعتاد عرب الجاهلية على مواجهتها، ليس بيدك ما تفعله لتأكل وتبقى حيا غير سرقة الخبز من فم الآخرين. هكذا عطل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قطع يد السارق في عام المجاعة.

ولكنني أتفهم قرار الخليفة وما يقوم به الجياع والبسطاء، بل وحتى الوزراء من سرقات. ما يحيرني حقا هو السرقة الأدبية والعلمية. فالمثقفون والمفكرون عندنا ممن نسمعهم دوما ينددون بالفساد، لا يتورعون قط عن سرقة إنتاج زملائهم. ويا ما عانيت منه. يعيدون نشر مقالاتي في صحفهم وكتبهم دون أن يستشيروني أو يدفعوا لي شيئا أو يطلبوا إذنا مني أو من ناشر هذه الصحيفة. الطيبون منهم يتكرمون علي بذكر اسمي. ولكن بينهم من ينتحل المقالة بكاملها وينشرها باسمه. قام أحد الناشرين بسرقة مسودة كتاب كامل لي ونشره دون أن يتصل بي مطلقا. الحمد لله أنه ذكر اسمي على الكتاب ولم يسنده لعشيقته.

وحتى كبار مفكرينا يسرقون أفكارهم من غيرهم. لا عيب في ذلك إذا اعترف وقال إنه تأثر بتلك الفكرة ويكتب بوحيها ويذكر صاحبها. طه حسين أخذ فكرته عن الشعر الجاهلي من الفرنسيين ولكنه لم يشر إلى من سبقه في مثلها ثم طبقها على الشعر الجاهلي. كذا فعل محمد عبد الوهاب في اقتباس بعض أعماله الموسيقية من الغرب. وأنا كذلك. ياما سرقت نكات وقفشات أجنبية وأسندتها لرجالنا. ولكن عالم الفكاهة عالم شيوعي. من كل حسب خفة دمه لكل حسب فقر دمه.