التدخل الدولي والإقليمي في الربيع العربي

TT

هل أخذ الربيع العربي يتحول إلى «شيء آخر» غير ما صفّق له المجتمع الدولي وما أفعم القلوب العربية بالأمل؟! أي إلى ثورات متعاقبة ومتضادة توقظ وتؤجج كل العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية التي كانت راقدة أو مكبوتة في المجتمعات الوطنية العربية، وتدفعها إلى حروب أهلية تمزق الأمة العربية أكثر مما هي ممزقة؟!

وهل كان لا بد أن يكون الطريق إلى الديمقراطية العربية معبدا بالدماء؟! وإلا، كيف نبرر ما حدث في العراق، بعد جلاء آخر جندي أميركي عنه بيوم واحد، من انفجار الأزمة السياسية، المذهبية، داخل الحكم (راجع تصريحات وزير الخارجية الروسي الأخيرة حول الفتنة السنية - الشيعية في المنطقة)؟! كيف نفسر هذا الذي يحدث في مصر من صدام وتجاذبات بين المجلس العسكري وشباب الثورة والقوى الإسلامية؟ أو ما يحدث في ليبيا، وفي اليمن وفي سوريا؟! وما قيل عن دخول تنظيم القاعدة على الخط في سوريا؟ أو عن متطوعين ليبيين قدموا لنصرة الثوار السوريين؟ هل نحن أمام ثورات يأكل بعضها بعضا؟ أم نحن أمام فلتان سياسي وتدهور ثوري نحو قرار مجهول؟! وهل من قبيل الصدف أن ينشب هذا النزاع فجأة بين فرنسا وتركيا، البلدين الأكثر تأييدا للانتفاضة الشعبية السورية؟ وأن لا يكون لطرف ثالث يد فيه؟

لقد كانت انتفاضة الشعوب العربية على أنظمتها منتظرة، وكان الترحيب بها طبيعيا، ولكن ما استثارته تلك الانتفاضات الشعبية من رواسب وعصبيات وحزازات طائفية وعرقية، راقدة أو مكبوتة، في المجتمعات العربية، لا يبشر بأي خير، بل يدعو إلى كثير من القلق والتخوف من عواقبه. وإلى طرح السؤال الرهيب التالي: هل هذا هو المصير القومي العربي الذي حلم به آباؤنا وأجدادنا، عندما رفعوا راية النهضة والاستقلال ووحدة الأمة العربية، منذ مائة عام؟! أم ترانا نعيش، اليوم، بداية نهاية «الأمة العربية الواحدة» وعلى عتبة إعادة رسم خرائط الدول الوطنية في ما لا يزال يسمى بالعالم العربي؟!

قد يقول البعض إن كل الثورات في التاريخ أعقبتها مرحلة بل مراحل انتقالية، استغرقت سنوات بل وعقودا، قبل أن يعثر من يستقر الحكم في أيديهم - وهم عادة غير الذين أشعلوا فتيل الثورة - على نظام الحكم الذي يوفر للشعب القسط المعقول أو الكافي من الحرية والعدالة والأمن والاستقرار. غير أن هناك فرقا كبيرا بين العالم الذي قامت فيه الثورات الكبرى في التاريخ، (الفرنسية والروسية وثورات التحرير من الاستعمار)، وعالم اليوم. ففي عالم القرن الحادي والعشرين، أي عصر العولمة والتكنولوجيا المعلوماتية وترابط مصائر الشعوب ومصالح الدول، أمنيا واقتصاديا وبيئيا، أصبح أيّ حدث في أصغر دولة - فكيف بالثورات؟ - موضع اهتمام كل الدول، الكبرى منها والمجاورة، وملفا مفتوحا أمام مجلس الأمن والمجتمع الدولي والرأي العام العالمي.

ومن هنا استغرابنا لمقولة بعض المصفقين لهذه الثورات العربية أو المتصدين لها، بأنهم «يرفضون تدخل الدول الخارجية في شؤون بلادهم». فالتدخل الدولي عسكريا كان أم سياسيا أم إعلاميا أم اقتصاديا، أصبح اليوم هو القاعدة، وعدم التدخل هو الاستثناء. والنقاش هو حول نوعية التدخل ودرجته. أما الحكم على شرعية أو لا شرعية التدخل، فلا يقتصر أو ينطلق - كما كان بالأمس - من بعض المبادئ التي كرسها القانون الدولي أو الدساتير الوطنية، حول احترام سيادة الدول واستقلالها، بل باتت ترتكز على قرارات مجلس الأمن الدولي، وتوافق الدول الكبرى أو اختلافها، كما على تقبل أو رفض المجتمع الدولي لها.

وهل يستطيع أحد إنكار الدور الكبير الذي لعبته بعض الفضائيات العربية وأجهزة الكومبيوتر والهواتف الجوالة في تغذية الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة أو في الضغط على الأنظمة أو في التأثير على الرأي العام؟ أوَلا يسمى هذا تدخلا في الشؤون الداخلية أو مساسا بالسيادة الوطنية؟! أوَلم تعادل، بل وتتفوق، قوة هذه الوسائل السمعية والبصرية السياسية على قوة التدخل العسكري؟

لقد اتخذت الثورات العربية مجاري مختلفة وانبثقت عنها أنظمة متباينة الأشكال، من المبكر الحكم عليها. ولا غرابة، فليست المجتمعات الوطنية العربية بمتشابهة ولا مقومات الدول العربية بواحدة. إلا أن ما تختلف به الشعوب والمجتمعات العربية عن غيرها في العالم، وعبر التاريخ، هو أنها تضم جماعات ما زالت تعيش كما كان أجدادها يعيشون - ويفكرون - منذ ألف عام وأكثر، كما تضم نخبا مثقفة وذات كفاءة لا تختلف بشيء عن أرقى وأكفأ النخب في الدول المتقدمة. والمشكلة هي في أن كلا من الجماعتين ترفض أن تقرر الجماعة الأخرى مصير الوطن، وتجد صعوبة في التعاون معها. فلو كان الأمر صراعا طبقيا فحسب لهانت نظريا طريقة معالجته، ولكن حين يقترن هذا الصراع الطبقي - الحضاري بصراعات دينية وطائفية ومذهبية وقبلية وعنصرية عقائدية سياسية، يتساءل الإنسان عن طرف الخيط الذي يجب سحبه لتحلحل العقد وتفك الشبكة التي تقيد العقل والجسم العربيين.

إن «المارد» الذي خرج من قمقم الربيع العربي لم يكشف، بعد، عن وجهه وحجمه. ولكن الأحداث الأخيرة في مصر والعراق وسوريا واليمن تحمل على التشاؤم والتخوف أكثر مما توحي بالأمل. وعسى أن تكذبنا الأيام.