إعادة اكتشاف بورقيبة

TT

الزمان ديسمبر (كانون الأول) 1972، والمكان تونس، والمشهد في شريط الفيديو المتاح على «يوتيوب» يبدو كوميديا ويعكس صراعا بين جيلين وعقليتين، ومرحلة كانت سمتها الصراع الشديد، العجوز الحبيب بورقيبة، المصنف وقتها على قوى الرجعية من جانب الأنظمة الثورية حسب تقسيمات تلك المرحلة، وإلى جانبه «الشاب الثوري» معمر القذافي الذي تولى السلطة في ليبيا قبلها بعام تقريبا عن طريق انقلاب، ويبدو واثقا من نفسه، وتعبيراته تستهين بما يقوله الآخر وهو يضحك لعبارات بورقيبة الذي تعمد أن يهاجم القذافي ضمنيا وهما جالسان على نفس المنصة.

بورقيبة، حسب الروايات، جاء إلى المؤتمر الذي ألهب فيه القذافي مشاعر الحضور بدعوته للوحدة العربية الفورية ومحاربة الإمبريالية، لينتزع المنصة ويأخذ الكلمة ثم يبدأ حديثا يفند فيه مقولات القذافي، قائلا إنه لا يختلف معه في الهدف النهائي، ولكن كل شيء يجب أن يتم تدريجيا وعلى أسس سليمة، مؤكدا أن الأهم تغيير العقول وبناء البشر والتقدم العلمي وتوسيع مفهوم المواطنة. فالاستقلال منح السيادة لكن الأرزاق والاحتياجات والعلوم ليست في أيدينا، بدليل أن إصلاح سخان القصر الجمهوري احتاج إلى اللجوء إلى الخارج. وقال ماذا ستفيد وحدة 5 ملايين تونسي بمليون ونصف المليون ليبي (وقتها) ونحن ضعفاء؟ فإذا أردنا أن نبني شيئا يجب أن نبنيه على أساس قوي يستمر وليس مثل الوحدات السابقة التي كانت مجرد توقيع على أوراق، مشيرا إلى تجربة الوحدة المصرية - السورية التي انهارت بسرعة لأنها لم تكن مبنية على أساس.

المؤكد أن رسالة بورقيبة، الذي كان ينتفض في المؤتمر ويتكلم بحماسة، محاولا الدفاع عن نموذجه وحجته للحفاظ على تجربته في تونس التي جاء القذافي ليسرقها، لم تكن بمثل شاعرية وحماسة «الثوري الشاب» المقبل من ليبيا. فالخطاب الشعبوي أكثر دغدغة للعواطف وإثارة للحماسة.

لم يكن بورقيبة محبوبا في فترة المد القومي العروبي، فهو الذي طرح في أريحا، التي كانت وقتها تحت السيادة الأردنية عام 1965، مشروع الاعتراف بقرار الأمم المتحدة للتقسيم في فلسطين الذي يعود تاريخه إلى عام 1948، والدخول في مفاوضات مع إسرائيل على أساس قيام دولة فلسطينية هي التي تتولى التفاوض، وتسبب ذلك في موجة حملات إعلامية وإدانات ضده من الأطراف التي اعتبرت ذلك خروجا على الخط العربي.

ليس المقصود بذلك العرض تمجيد أحد أو إدانته، لكنها قراءة للتاريخ مرة أخرى. فكما يبدو، فهو يمكن أن يقرأ عدة مرات كل مرة بمزاج مختلف، والأهم أن تكون العبرة منه ماثلة أمام الأذهان، ويستفاد منها لبناء المستقبل، فما هو غير مقبول اليوم قد يكون مقبولا غدا، كما حدث في مسألة التفاوض على السلام.

وقد عادت سيرة بورقيبة مع تولي الباجي قائد السبسي، رفيق نضاله نحو الاستقلال في تونس، مسؤولية المرحلة الانتقالية التي أفرزت البرلمان التأسيسي بعد – ربما - أول انتخابات حرة منذ الاستقلال. وكان تعليق المنصف المرزوقي، الرئيس التونسي الجديد، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» قبل يومين عن أن هناك قاسما مشتركا بينه وبين بورقيبة، وهو الاهتمام بالتعليم والمرأة وحب تونس، وأن الاختلاف معه في أن الآخر أوتوقراطي وهو – أي المرزوقي - ديمقراطي ذو مغزى عميق.

لقد أفاد بورقيبة المجتمع التونسي باهتمامه بالتعليم وحقوق المرأة، لكنه أخفق - وهو مؤسس الجمهورية التونسية الأولى - في وضع أسس نظام قادر على السير والديمومة وإصلاح نفسه بعده، بدليل أن هذه الجمهورية وصلت إلى نهاية الطريق مع الثورة التي تشكل حاليا الجمهورية الثانية. والمهم في كل الجمهوريات العربية التي تدخل مرحلة الجمهورية الثانية، أن تستفيد من إعادة قراءة التاريخ بمزاج جديد لتؤسس لشيء قابل للاستمرار والتحول والتغير بشكل سلمي.