عام الجسد

TT

بدأ عام 2011 بشاب تونسي يضرم النار في جسده في العلن في سيدي بوزيد، تلك المدينة التونسية المهمشة، وقامت الثورة في تونس على رماد جسد محمد البوعزيزي، وانتقلت النيران من جسد البوعزيزي إلى كل الجسد السياسي العربي إلا قليلا، وهاهو العام ينتهي بجسد فتاة مصرية يعريه جنود الجيش المصري في الشارع وفي قلب الميدان ولا نعرف ما الحريق الذي يليه، أم أن النيران لا تنتقل عدواها من أجساد النساء كما تنقلها أجساد الرجال؟ إنه على ما يبدو عام الجسد العربي حريقا وتعرية.

الجسد والسياسة حالة عالمية، لكنها تتخذ منحى خاصا في الحالة العربية؛ فمعركة الحداثة في تركيا مثلا كانت على علامات الجسد، ممثلة في لباس الرأس (الطربوش)، الحال نفسه كان بالنسبة للباس ماو تسي تونغ في الصين، فما يوضع على الجسد أو ما يخلع عنه كلها رموز سياسية لها دلالتها؛ فالجسد هو لوحة الإعلانات الأولى في معظم الحضارات.

عندنا اللحية والزبيبة والعمامة كلها رمزيات دينية في أعلى لوحة الإعلانات وهي رأس الإنسان، وعندنا الحجاب أيضا، وغالبا لا تتحدث الحضارات عن أدنى اللوحة أو حتى وسطها؛ فليس هناك تحريم أو تجريم للبس الأحذية مثلا من عدمه؛ لأن العين تعترف بما في مستواها وما يقابلها؛ لذا تجد التشديد في معظم الحضارات على الجزء العلوي من الجسد.

النقطة الأساسية هنا هي أن الجسد سياسة، وما قام به البوعزيزي في تونس أو ما قام به الجنود في مصر من تعرية جسد الفتاة كان في صميم السياسة، كما أن الحديث المصري الذي انشغل بملابس الفتاة على حساب الجريمة هو حديث الجسد وحديث السياسة في الوقت ذاته.

الجسد هو حكاية العرب الأولى والأخيرة في السياسة والثقافة، هو مركزية التناقض العربي، هو المقدس والمدنس في النفس ذاته والجملة ذاتها والرجل ذاته والمرأة ذاتها، وفي حرقه إنهاء لهذا التناقض، كما في تعريته أيضا وسيلة أسهل للقضاء على التناقض ذاته، جسد المرأة وجسد الرجل وجسد السياسة وجسد الوطن.. كلها مدنية في الصباح ومقدسة في المساء أو العكس.. إن مأساة العرب الأولى هي مأساة الجسد. من حالة الخلط بين جسد المرأة وشرف القبيلة والعائلة إلى تفخيخ الجسد كحالة استشهادية جهادية شاهدناها في فلسطين والعراق، إلى ضرب الجسد في احتفالات الشيعة، إلى التعذيب في السجون، إلى الرجم وإلى جرائم الشرف.. كلها معضلة جسد، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل هذا العام عام الجسد، إذا كانت للقصة أبعاد عالمية وكذلك أمور سبقتها محليا؟

الإجابة ببساطة هي أن تناقل الصور الجسدية هذه المرة بوسائل الإعلام الحديثة جعلها أكثر تركيزا وتعظيما، وكانت آخرها تلك الصورة للفتاة المصرية العارية تماما، المتداولة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت). كانت سياسة الجسد في السابق محصورة في حدث صغير أو محدود، أما هذا العام فتأثير الجسد أحدث ثورات وحشد الملايين في الشوارع من النساء والرجال، جميعهم مدفوعون بسياسة الجسد في قلب جسد السياسة. ومن هنا جاءت الخصوصية هذه المرة.

فك الارتباط مع إشكالية الجسد هو بداية تفكيك الحالة الثقافية والسياسية. فض الاشتباك مع ما يشدنا كثيرا إلى الأرض ويثقل خطانا هو ما قد يأخذنا إلى المرحلة الثانية، إما عقلانية وإما روحانية، لكنها منطقة ومجال أعلى من مجال الجسد الذي بقينا فيه لقرون طويلة. الجسد هو الثلث المعطل للحياة العربية سياسيا وثقافيا. يأخذ منا حيزا أكبر في الحوار مما يجب ويجعلنا حضارة مظهر لا حضارة جوهر. نركز كثيرا على كل ما هو معروض على لوحة الإعلانات البدائية الأولى حجابا ونقابا وزبيبة ولحية ولباسا. هذا كله يجعل النفاذ إلى عوالم العقل والنفس والروح أمرا صعبا بالنسبة لنا.

لو كانت هناك ثورة حقيقية ستقوم يوما ما في عالم العرب فهي ثورة فض إشكالية العربي مع الجسد وحسم أمره تجاهه، هل هو مقدس أم مدنس؟ هل هو مركزية الفضيلة أم بؤرة الرذيلة؟ كي ننتقل إلى فضاءات أرحب وحتى لا نكون مشدودين دائما بثقل المادة إلى الأرض دونما أن نحلق في مدارات أسمى، فالحياة واحدة، والبقاء كل هذه القرون في سجن الجسد ربما هو ما أوصل البوعزيزي إلى إضرام النار فيه دونما وعي منه، وربما هو الأمر ذاته الذي حرك الجموع إلى الشوارع والشاشات لمناقشة قضايا الجسد.

يتحرر جسد السياسة فقط عندما يتحرر الإنسان من أعباء الجسد، وذلك ينطبق على الحضارات كلها، والحضارة العربية ليست الاستثناء في ذلك، وإن كانت تبدو كذلك فلن يدوم الاستثناء كثيرا.

البوعزيزي وفتاة الميدان رمزان لأمور أكبر وأعمق. لم يكن يقصد البوعزيزي إشعال ثورات من تونس مرورا بليبيا ومصر واليمن وسوريا، وبالتأكيد لم يكن يقصد الجنود في مصر أن يشعلوا ثورة الجسد التي قد تحدث أو لا تحدث، لكنه قانون التبعات غير المقصودة للحدث، التي غالبا ما تدهشنا وتفوق توقعاتنا. فهل يحمل إلينا العام الجديد مزيدا من الدهشة؟ أعتقد ذلك فالعرب الآن، على الرغم من كل ما نرى من حولنا، هم فقط على حافة الدهشة ولم يجرفهم التيار إلى مركزها بعد.