أزمة الهاشمي.. الأخطاء والتداعيات

TT

على أثر صدور أمر قضائي بإلقاء القبض على طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية في العراق، بتهمة ارتكابه وأفراد من حمايته جرائم مصنفة على الإرهاب، طالب ائتلاف (العراقية) السني للفور بسحب الثقة عن نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية الحالية والبحث عن من يخلفه في الحكم. وكأني بلسان حاله يقول، إن من يخلفه سيكون خير خلف لشر سلف! وغاب عنه، تشكي الكرد المتكرر قبل 7 سنوات، من ممارسات حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري التي كادت أن تدفع بالكرد إلى الانسحاب من تلك الحكومة والعملية السياسية برمتها. لكنهم سرعان ما تداركوا الخطأ وعدلوا عن فكرة الانسحاب بعد أن علموا، أن مشكلتهم ليست مع فرد بقدر ما هي مع منظومة سياسية واجتماعية ضخمة (الشيعة) مع احتمال دخولهم في عزلة جراء الانسحاب قد تأتي على مكاسب كثيرة لهم.

وفيما بعد ثبتت وجاهة عدولهم حين أوحى المالكي لهم من خلال سلسلة مواقف استفزازية له من الحق الكردي، والتي ما زالت تتواصل، بأنه نسخة طبق الأصل من الجعفري، بشكل يسري بحقه القول (شر خلف لشر سلف). عليه لو كان ائتلاف (العراقية) مستوعبا للدرس الكردي لما كان يقاطع البرلمان والحكومة احتجاجا على الأمر القضائي المذكور. إذن، ألستم معي إذا قلت إن الائتلاف السني تقدم بمعالجة لأزمة الهاشمي محكوم عليها مسبقا بالعقم والفشل، وهو القائل أكثر من مرة في السابق بعدم انسحابه من العملية السياسية مهما ازدادت الضغوط عليه؟

ولم يكن خطأ القيادة الكردية باحتضانها للهاشمي بأقل من خطأ (العراقية)، ذلك عندما استقبلت الأخير معلنة على رؤوس الأشهاد أنها لن تسلمه إلى بغداد مهما كلف الأمر، من غير أن تدرك أنها بموقفها هذا، تكون قد تحولت إلى جزء من المشكلة بعد أن كانت تفخر في الماضي بأنها جزء من الحل، أو كما كان يصفها بعضهم ببيضة القبان، ومن دون أن تعي أنه بإصرار بغداد على مطالبتها بتسليم الهاشمي، فإنها (القيادة الكردية) تكون قد تسببت في إيصال العلاقة بينها وبين بغداد إلى نقطة اللاعودة عن التصادم الذي بات حتميا بينهما. إذا سارت الأمور بالشكل الذي نراه.

ونجم عن هذا الخطأ حصول أخطاء أخرى تلقائيا، مثل السماح للهاشمي بإطلاق تصريحات ضد حكومة المالكي واتخاذ إقليم كردستان قاعدة لنشاطاته ضدها. وفي حال ثبت تورط الهاشمي في الإرهاب، فإن حكومة كردستان ستتهم بالتورط في الإرهاب أيضا، وهي المعروفة بتخندقها في الخط الأمامي ضد الإرهاب، وهو كذلك. وإذا مضت قدما في حماية الهاشمي وتواصلت ضغوط المالكي عليها، آنذاك لا بد أن تجد نفسها بين ضغطين شبيهين بحجري الرحى، الأول تركي في مطالبته حكومة كردستان بمحاربة الحزب العمال الكردستاني (pkk) وطرده من الإقليم، والثاني الضغط الذي تمارسه بغداد على أربيل لأجل تسليم الهاشمي إلى القضاء العراقي. ومع الفارق بين «pkk» والهاشمي طبعا، فالهاشمي ضيف غير مرغوب فيه لدى الكرد، على خلفية مواقفه السابقة والحالية الرافضة للمطالب القومية الكردية، منها على سبيل المثال اعتراضه على تولي طالباني لرئاسة الجمهورية وزيباري لوزارة الخارجية.

ومن تداعيات الخطأ الكردي، أنه من الآن، فإن أي مبادرة كردية لإصلاح ذات البين بين الشيعة والسنة، لن تجد آذانا صاغية لدى بغداد، والسبب واضح، دع جانبا القول إن أي مبادرة كردية من شأنها أن تثير سؤالا تهكميا، وهو: أليس من الأجدى بالكرد أن ينصرفوا قبل كل شيء إلى ترتيب البيت الكردي الذي يعاني منذ فترة تمزقا وتداعيا خطيرا يتمثل في أشكال من الخلافات الكردية - الكردية؟ على الكرد أن يرتبوا بيتهم من قبل أن تطفو على السطح خلافات أخرى بينهم، وهنا لا يسعنا إلا التساؤل: ترى هل أثمرت المساعي الحميدة، سواء من بارزاني أو طالباني، أي تقريب بين الشيعة والسنة؟

على الضد من ذلك، إنه بموازاة تلك المساعي، فإن الخلاف بينه الطرفين ظل يتنامى ويستفحل إلى أن وصل إلى ما وصل إليه الآن، ولم تنفع معه المساعي الحميدة تلك، ولن تنفع لا الآن ولا في المستقبل أيضا.

لا يؤخذ على المالكي سعيه لمقاضاة الهاشمي، فالقضاء العراقي شهد مثول الكثير من القادة العراقيين أمامه، بعضهم كان أوسع شهرة من الهاشمي وأرفع منه رتبة. لكن الذي يؤخذ على المالكي، تهديده بالدعوة إلى حكم الأغلبية، فرفضه لنظام أقلمة المحافظات الدستوري وحربه غير المعلنة على الكرد وعلى أكثر من صعيد، ودخوله في حلف طائفي مع إيران وسوريا.. إلخ من السياسات المدانة، والتي في معظمها جاءت متزامنة مع ملاحقته للهاشمي، مما أفاد بأن الملاحقة ما هي إلا إيذان بصعود الديكتاتورية.

أحيانا لا يقل خطر خطأ المظلوم عن خطر طغيان الظالم، وقد يكون خطأ المظلوم أكثر إيذاء له من ظلم الظالم. ففي الأعوام الماضية كان التوافق بين سياسات الشيعة والسنة محل استغراب المهتمين بالشأن العراقي مثل التوافق في المطالبة بانسحاب الأميركيين، ورفض الفيدرالية، والعداء للكويت ومناهضة الكرد في قضية المناطق المتنازع عليها.. إلخ من السياسات اللاعقلانية بالنسبة إلى السنة والعاقلة بالنسبة إلى الشيعة وحكومة المالكي التي استفادت من المشتركات بينها وبين السنة. يذكر أن السنة حيال معظم فقرات التوافق أعلاه، كانوا أشد تحمسا من الشيعة في الالتزام بها، وما زالت أجنحة للسنة لا تحيد عن النهج عينه، فسياسة هيئة علماء المسلمين مثلا إزاء الأميركيين والفيدرالية وأقلمة المحافظات.. إلخ، من الصعب تمييزها عن سياسات أشد التيارات الشيعية تطرفا كالتيار الصدري مثلا. إلى جانب ذلك فإن مواقف (العراقية) اتسمت بتقديم التنازلات تلو التنازلات للمالكي وعلى طول الخط. ليس هذا فحسب، بل إن لجوء فصائل سنية إلى المقاومة المسلحة، كان ولا يزال يشكل خدمة لا تقدر بثمن تقدم إلى المالكي، آخرها تلك التي قدمتها له يوم 22/12/2011، وراح ضحيتها أكثر من 70 قتيلا والعشرات من الجرحى في بغداد.

ليست السياسات السنية تلك وحدها التي قوت من سلطة المالكي، بل دخولهم في صراع ضدها دون عدة، فكلمتهم ما برحت مشتتة، والانقسام بينهم مشروع دائم، ففي قضية الهاشمي مثلا، بدت التيارات الشيعية كالبنيان المرصوص، وبلغ الأمر أشده بإلقاء (عصائب أهل الحق) وحزب الله العراقي المتشددين الشيعيين، السلاح والانضمام إلى العملية السياسية وحكومة المالكي. في وقت يظهر فيه السنة التذمر من عدم انسحاب النجيفي من البرلمان، أسوة ببقية البرلمانيين السنة، والشكوك من بقاء إياد علاوي بمنأى عن أي شكل من أشكال الملاحقات.

ويتحمل الاحتلال الأميركي للعراق بدوره، قسطا كبيرا مما آل إليه العراق من تدهور وتداع، لعزوفه عن إيجاد حل جذري للمشكلات العراقية، وكان بالإمكان إيجاده، مثلما رسخت السياسات والأعمال المتشنجة للسنة من نفوذ المالكي، فإن سياسات الاحتلال أدت الدور نفسه، ويلاحظ أنه على الرغم من ضغوط المالكي لإرغام الأميركيين على الانسحاب من العراق، نجد واشنطن بمثابة عرض دائم للخدمات إلى المالكي، سواء من حيث الاستعداد لتدريب القوات العراقية أو تزويدها بأحدث الأسلحة، وخدمات أخرى لا تحصى.

لما مرّ وفي معرض التقييم لأزمة الهاشمي، ما على العرب السنة إلا أن يعوا التغييرات التي طرأت على السياسة الأميركية في المنطقة، والتي تقف على مسافة واحدة من العلمانيين والإسلاميين، ولكن مع ميل إلى الثاني، بعد أن كانت ميالة بوضوح إلى العلمانيين في الماضي. ولما كانت الهوية العلمانية هي الغالبة على السنة العراقيين، فعليهم إدراك فقدانهم لذلك الميل الأميركي، ومثلما لم تتورع أميركا في التخلي عن حلفائها في الهند الصينية عام 1975 وترك السلطة لألد أعدائها (الشيوعيين) هناك، ومثلما لم تتورع عن التخلي عن حلفائها العلمانيين في أقطار (الربيع العربي) وساعدت ألد أعدائها (الإسلاميين) لتسلم السلطة في تلك الأقطار، فإن بوادر مغازلتها للمالكي بادية للعيان لقاء الإبقاء على الحد الأدنى من المصالح الأميركية في المنطقة.

لن تكون أزمة الهاشمي الأخيرة في مسلسل الأزمات العراقية، وسيبقى المشهد العراقي مفتوحا أمام أزمات أخرى مقبلة لا شك، ويظل الحل بعيد المنال، ما لم يتم الفصل بين المكونات الاجتماعية العراقية الشيعية والسنية والكردية

* رئيس تحرير صحيفة «راية الموصل» - العراق