الفرصة الضائعة في العراق

TT

مع انسحاب القوات الأميركية من العراق، يراجع الأميركيون ثمن الحرب الاختيارية التي دامت تسعة أعوام، وكان الثمن الذي دفع من دماء الأميركيين مقتل 4500، وإصابة 33 ألفا. أما من ناحية العلاقات المقطوعة حول العالم، ومن ناحية الأموال، فبلغت التكلفة المالية المباشرة للحرب تريليون دولار، بينما تزيد التكلفة المالية الحقيقية على خمسة أمثال، وتتمثل في ارتفاع أسعار النفط، وتكلفة رعاية الجنود والمصابين على المدى الطويل، والتزود بأسلحة ومعدات بدلا من التي استنفدت، مما يجعل التكلفة الإجمالية تتجاوز تكلفة الحرب العالمية الثانية، وإضافة إلى كل ذلك، هناك خسارة لآلية تطبيق اتفاقيات منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، رغم عدم معرفة مدى قدرة ذلك على تغيير مسار الأحداث التالية، مثل الأحداث في إيران. قد لا يعرف الشعب على وجه التحديد كيف ومتى اتخذت إدارة بوش قرار الحرب الخاطئ، وصرح وزير الخزانة السابق بول أونيل بأن الإطاحة بصدام حسين من سدة الحكم كانت محور اجتماع مع الرئيس جورج بوش الابن بعد عشرة أيام من توليه المنصب الرئاسي رسميا، وقبل ثمانية أشهر من وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). من بين الأسباب المحتملة لهذا القرار: الانتقام من الهجوم العراقي على والد بوش، وهيمنة الولايات المتحدة على النفط في الشرق الأوسط، ونشر الديمقراطية في المنطقة، فقط التهمة الموجهة لصدام حسين بامتلاك أسلحة دمار شامل هي التي يمكن أن يصدقها الشعب الأميركي. بات من الواضح حاليا أن أجهزة الاستخبارات كانت مخطئة بشدة، وأن مسؤولي الإدارة، ومنهم الرئيس، كانوا مبالغين، وأساءوا استخدام المعلومات الاستخباراتية، التي تصل إلى حد التناقض، في محاولة للخروج بقصة مقنعة. مع ذلك، ما هو غير معروف كثيرا هو محاولة مفتشي الأمم المتحدة لفهم الأمر، حيث كانت تقديراتهم فيما يتعلق بالبرامج النووية والكيميائية والبيولوجية في العراق أقرب ما تكون لما تم اكتشافه لاحقا، ومع ذلك، أجهضت الولايات المتحدة ما كان سيصبح نجاحا دوليا باهرا بإصرارها على غزو العراق قبل أن يتاح لعمليات التفتيش النجاح. في الفترة من عام 1991 و1998، اكتشفت قوة تعرف باسم القوات الخاصة التابعة للأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية أكثر المنشآت النووية التي تعمل في تصنيع أسلحة الدمار الشامل، أو كلها، ودمرتها، وتضمنت برامج تلك المنشآت برنامجا هاما لتخصيب اليورانيوم لاستخدامه في صناعة الأسلحة، ومن خلال عملية تحر مضنية أماطت القوات الخاصة التابعة للأمم المتحدة اللثام عن أكثر البرامج سرية في العراق، والتي كانت تستهدف صناعة أسلحة بيولوجية، وأشرفت على تدمير أكثر العناصر التي تدخل في صناعة الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وكذلك كشفت تلك القوات الخاصة على التعاملات السرية بين العراق وما يزيد على 500 شركة في 40 دولة مختلفة، وتمكنت من تعقب ومنع الصادرات والواردات. هل تعرف كم كانت تكلفة كل هذا؟ نحو 30 مليون دولار.

استغرقت الجولة الثانية من عمليات التفتيش أقل من أربعة أشهر. وفي الوقت الذي كان يصف فيه نائب الرئيس الأميركي آنذاك، ديك تشيني، ووزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، هذه العمليات بالـ«زائفة» و«المرهقة»، قبيل الغزو الأميركي الذي أنهى هذه العمليات، كان مفتشو الوكالة قد زاروا فقط نصف عدد المواقع التي رصدتها القوات الخاصة والبالغ عددها 700، وبالكاد بدأوا في تفتيش المواقع الجديدة. بعد الأسابيع الأولى من الحرب، دشنت الولايات المتحدة برنامجها التفتيشي الذي كانت مدته عاما والذي بلغت تكلفته 900 مليون دولار فقط لتكتشف بضعة مواقع جديدة. بالنظر إلى كل ما تقدم، ينبغي أن يتساءل المجتمع الدولي عما كان سيحدث إذا سعت الولايات المتحدة إلى نزع أسلحة الدمار الشامل لا تغيير النظام. لا تتضمن عمليات التفتيش القفز من مكان إلى آخر أملا في العثور على أمر سري، حيث تتضمن إجراء مقابلات طويلة، وإقامة علاقات مع أفراد مهمين، والحصول على الرواية الواحدة من أشخاص مختلفين، وإجراء تحقيقات وتحليلات فنية، وترتيب الأوراق ذات الصلة، ويمكن لمثل هذا مع عمليات التفتيش على الأرض أن يقدم أجوبة حقيقية هامة، كانت هذه العملية ستستغرق نحو عام في العراق. بعد تدمير ما تم العثور عليه، كان سيتم وضع تدابير للتفتيش قابلة للتطور. بناء على هذا النجاح، كان من الممكن أن يتم إرساء هيئة للتفتيش المنتظم الدائم في نيويورك أو جنيف. ربما توضح هذه النتيجة عدم اهتمام الولايات المتحدة أو بعض القوى الكبرى بأسلحة الدمار الشامل. كانت هذه المحاولات الدولية، التي بذلت من أجل نزع أسلحة الدمار الشامل، ستوضح أن 200 دولة تقريبا من التي وقعت على معاهدات حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل ترى أن برامج التسلح غير الشرعية خطر لا يمكن التهاون معه وسيهدد السلام العالمي، وكان على الأمم المتحدة التهديد باستخدام القوة قبل بداية عمليات التفتيش في العراق. هل كان من الممكن أن تكتسب سلطة التفتيش تدريجيا القدرة على التدخل من دون هذا التهديد؟ لا يمكن أن نعرف، لكن من الواضح أنه كان قد تم التخلي عن صدام حسين قبل أن يكتسب قرار الأمم المتحدة شرعية غير قابلة للنقض، ودعما واسع النطاق، وتوحدا في الهدف في مجلس الأمن. في الدبلوماسية الدولية النجاح يجلب القوة، مثلما يؤدي الفشل في تطبيق الاتفاقيات إلى الإحباط والجمود.

الاستنتاج المؤلم الذي لا يمكن الهروب من مواجهته هو أنه إذا سعت إدارة بوش لالتزام دولي بإبعاد أسلحة الدمار الشامل عن أيدي صدام حسين، كانت هذه الاتفاقية ستؤتي ثمارها، وبناء على ذلك كان من الممكن إرساء آلية لحظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، ليس فقط للتعامل مع الوضع في العراق، بل أيضا للوضع في كوريا الشمالية وليبيا وسوريا وإيران، وغيرها من الدول. وكان من الممكن الحد من الصدع العميق الذي يفصل بين الدول التي تملك سلاحا نوويا وتلك التي لا تملكه، والذي زادته الحرب عمقا، وكان من الممكن دعم التعاون على المدى الطويل اللازم لإبعاد أسلحة الدمار الشامل عن أيدي الإرهابيين بدلا من تقويضه، كذلك كان من الممكن ألا يتم إقرار حق شن طرف واحد هجوما في إطار «ضربة وقائية»، والذي يمثل سابقة أولى من نوعها، ولم تكن ستتم معارضة تدخل عدة أطراف من أجل منع انتشار الأسلحة النووية كما يحدث الآن كستار تستخدمه بعض القوى لفرض تغيير نظام حكم، ويعد كل هذا على سبيل الإيجاز.

* خدمة «واشنطن بوست»