الاتحاد الأمنية.. والحل المتيسر

TT

لولا الدعوة الطيبة من جانب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للانتقال بدول الخليج من حالة التعاون إلى الاتحاد، لكان عام 2011 سينقضي وقد كلل التفكك والفوضى وتدمير النفس والتغيير العشوائي أيامه. ثم جاءت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز تؤكد ما معناه أن خير العرب هو بعد تآلف القلوب وتوحيد الصف والتنبه إلى ما ينسجه الطامعون بالأمة من مؤامرات، باعتماد التوحد كوسيلة لمواجهة من لا يريد خيرا للعالم العربي. والاتحاد كما يراه خادم الحرمين الشريفين ليس بالكثرة السكانية، وإنما هو بالموقف الواحد. وبهذا الموقف تكون هنالك سياسة خارجية واحدة من دون أن يعني ذلك حجب وجهات النظر، كما يكون هنالك رد واحد موحد الصيغة الواضحة على تهديد من هنا وتهديد من هناك، هذا إلى جانب زرع ثقافة الدفاع الواجب، وليس الدفاع الاضطراري أو المسايرة.

والأهم من هذا كله أنه عندما يكون هنالك توحد في الموقف وفي القرار وفي المشاعر وفي الإيمان بالواجب يصبح من الصعب على أي طرف حاسد أو طامع، إقليميا كان هذا الطرف أو خارجيا، إحداث ثغرات وبحيث لا يعود واردا القول إن الدولة الفلانية لها خطوات سالكة مع الدولة الحاسدة أو الطامعة أو المتدخلة، أو أن دولة فلانية أخرى تتصرف على نحو إحراج شركاء لها في «مجلس تعاون» فتدعو رئيس دولة طامعة إلى المشاركة، وإن بصيغة المراقب في مؤتمر لذلك المجلس. كما لا يعود واردا إقدام إحدى دول المجلس على الإدلاء بتصريحات لها صفة الموقف، وذلك من دون التشاور والتفاهم على نص لا يحتمل الكثير من التفسيرات.

وفي تقديرنا أن الدعوة من أجل انتقال دول «مجلس التعاون» إلى صيغة التوحد ستسهل مستقبلا، وربما في المدى غير البعيد، تحريك فكرة كانت واردة قبل الانتفاضات العربية، التي يصنفها البعض ثورات، وغدت ضرورية في ضوء ما آلت إليه الأحوال في الدول التي شهدت تلك الانتفاضات. ومن قبل دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة الخليجية في الرياض يوم الاثنين 19 ديسمبر (كانون الأول) 2011 قادة دول «مجلس التعاون» إلى إحداث نقلة نوعية في الكيان الخليجي، أي «الاتحاد» بدل «التعاون»، كانت مسألة انتساب اليمن قيد البحث ووزن الأمور بميزان السلبيات والإيجابيات، ثم تقدمت الهموم والاهتمامات بتداعيات الانتفاضة ضد حكم «الإمام الجمهوري» علي عبد الله صالح على وزن الأمور، كما أن مسألة ضم المملكة الأردنية الهاشمية برغبة من ملكها عبد الله الثاني، ودعوة المملكة المغربية إلى الانضمام برغبة من خادم الحرمين الشريفين، إلى «مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، موضع تساؤلات كثيرة من بينها أن التركيبة الاجتماعية للمملكة الأردنية الهاشمية والتنوع المذهبي وأسلوب الحكم، فضلا عن ارتباط الأردن بمعاهدة سلام مع إسرائيل، تشكل نوعا من التناقض مع الخصوصية الخليجية عموما، ولا يلغي هذا التناقض علاقات وثيقة على مستوى أهل القمة، أو حضورا أمنيا أردنيا في بعض دول الخليج، أو مصاهرات أردنية - خليجية بعضها على مستوى أهل القمة مثل مصاهرة العرش الهاشمي (ابنة الملك حسين) لدولة الإمارات (الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم). كما من التساؤلات أيضا في موجبات دعوة المملكة المغربية إلى الانضمام إلى «مجلس التعاون الخليجي»، وهي التي لم تفعِّل بما يمكنها كدولة كبرى في الجناح المغاربي من الأمة دور هذا المجلس الذي استمر في حالة إعاقة فلا يلغى على نحو ما حصل لـ«مجلس التعاون العربي» الذي أعلن الرئيس حسني مبارك وفاته كواحدة من إجراءات اتخذها ردا على غزو شريكه في «مجلس التعاون العربي» الرئيس صدام حسين الكويت.. ومما قاله مبارك في لقاء استثنائي يوم الخميس 27 سبتمبر (أيلول) 1990 مع جنود وضباط الفرقة الثالثة مشاة، وذلك على متن إحدى السفن المتجهة من مصر إلى السعودية: «إن الرئيس العراقي يريد أن يسيطر على المنطقة ويريد أيضا أن يأخذ الزعامة من مصر، وهذا مستحيل. ومجلس التعاون العربي جعله صدَّام مجلس التآمر العربي». كما هو لا يتحرك بحيث يصبح فاعلا كتكتل لدول المغرب العربي، وهذا سببه أن حكام ثلاث دول خاضوا سباق الإصرار على زعامة هذا الاتحاد هم الملك الحسن الثاني ثم وريثه الملك محمد السادس، ومعمر القذافي، وعبد العزيز بوتفليقة. ونتيجة هذا الماراثون الزعامي بقي «مجلس التعاون المغاربي» مجرد اسم بلا فعل ولا من يفعِّلون. والتساؤلات في شأن دعوة المملكة المغربية لا تقتصر على الأوساط الخليجية التي ترى ما معناه أن بين الخليج وضفاف الأطلسي والمتوسط، حيث تتربع المملكة المغربية، بضع ساعات من الطيران، وأن الجو بالتالي هو وسيلة الاتصال الوحيدة، أما البر والبحر فلا مجال لذلك كما الحال مع الأردن واليمن، وإنما كانت أوساط سياسية وحزبية كثيرة داخل المملكة تقول ما معناه أن الروابط الشخصية بين المملكتين تفوق بكثير المقومات الموضوعية لكي تنتسب المملكة المغربية التي هي على ضفاف المحيط إلى مجلس في قلب الخليج له خصوصية، اجتماعيا وسياسيا، ووزن مالي. لكن في الوقت نفسه كانت الفكرة مغرية لجهة أن انضمام المملكة المغربية إلى المجلس الخليجي كفيل بإيجاد حلول لمشاكل صعبة لجهة توفير فرص عمل لعشرات الألوف من المغاربة، ذلك أنهم كما أبناء الأردن ستكون لهم الأفضلية عند التوظيف بحكم العضوية المفترض حدوثها في المجلس، وخصوصا أن التوجه نحو الزراعة في دول الخليج يحتاج إلى خبرة الفلاح المغربي والفلاح الأردني، بدليل أن العراق الزراعي ازدهر نوعيا في بعض سنوات حكم الرئيس الراحل صدام حسين بفعل علاقة جيدة بين البلدين وخبرة الفلاحين المغاربة الذين استقدمهم العراق الصدّامي بالألوف.

الآن وفي ضوء دعوة الملك عبد الله إلى الانتقال بدول المجلس الخليجي إلى «الاتحاد» بدل «التعاون» من شأن التساؤلات أن تتراجع، ذلك أن خادم الحرمين الشريفين، وعلى ما يجوز الاعتقاد، يؤسس بالدعوة التي أطلقها إلى عالم عربي جديد يتكون في مرحلة ما بعد هدوء إعصار الانتفاضات. كما يجوز الاعتقاد أن «مجلس التعاون» لن يصبح، على سبيل المثال لا الحصر، «اتحاد دول الخليج»، لأنه في ذلك يكون الذي حدث هو تعديل طفيف في المفردات، وإنما الذي يتوقع المرء حدوثه هو قيام اتحاد عربي شامل وفق رؤية واقعية تدور في خاطر الملك عبد الله بن عبد العزيز على ما يتمنى المرء ويستلهم فيها النهج الذي اتبعه والده المغفور له الملك عبد العزيز لتوحيد مملكة كان توحيد نجدها مع حجازها مع سائر فيافيها أصعب بكثير من ظروف توحيد أقطار الأمة في زمن الاستقلالات المنقوصة إرادات بعضها. لكنه مع ذلك نجح ويستحق نجاحه التأمل. ولعل هذا ما يتطلع إليه الملك عبد الله بن عبد العزيز من فكرته التي يعتبرها متيسرة، والتي نربطها بدعوته إلى التسامح، وطرحه مبادرات الوفاق، من مبادرته الفلسطينية إلى مبادرته العراقية إلى مبادرته السورية، وقبل ذلك مبادرته اللبنانية – السورية، وكلها ومعها وقبل ذلك المبادرة السعودية الرائدة لتحقيق وحدة حال اللبنانيين من أجل الإبقاء على وحدة بلدهم ووضع نهاية للاقتتال. وبموجب روحية الدعوة الجديدة التي هي من النوع المتيسر لا يعود هنالك استهجان ولا تلكؤ بوجود هذا الكيان الواحد الذي يراعي الخصوصيات والخالي من كوابيس الهيمنة في مسألة اصطفاف الخليجي إلى جانب الفلسطيني، والشامي إلى جانب المغربي، والمصري إلى جانب الجزائري، والعراقي إلى جانب القطري، والتونسي إلى جانب السوداني، والأردني إلى جانب الموريتاني، والجيبوتي إلى جانب الإماراتي إلى جانب إخوانه بمن فيهم أبناء جزر القمر، واليمني إلى جانب الكويتي، والجميع من دون استثناء إلى جانب السعودي والبحريني المحتضنين أخاهما اللبناني. وفي هذا الحال لا يعود أمر إعادة النظر في الجامعة العربية كتسمية وكاستئثار لمنصب الأمين العام من المحرمات ويتم الأخذ بصيغة التداول كما هو حال تجربة «مجلس التعاون الخليجي» في شأن إشغال منصب الأمين العام. كما يصبح ميثاق الدفاع المشترك عمليا كما هو الحال في ضوء تجربة النجدة الخليجية لمملكة البحرين.

إنها مجرد خواطر في شأن دعوة جاءت من جانب الملك عبد الله بن عبد العزيز بمفردات تتسم بالرقة كقوله: «تجاوُز التعاون إلى الاتحاد» في لحظة عتمة عربية وخشية من أن يتبعثر البنيان العربي الذي أساساته الآن شبه آيلة للتساقط. وأهمية هذه الدعوة في أنها جاءت من أحد رموز العمل الجدي كما سائر مبادراته واقتراحاته وقوبلت بالتبني الفوري من إخوانه قادة دول الخليج. كما أنها ما كانت لتأتي من غيره، ولو أتت فإنها لن تلقى الاهتمام من جانب الرأي العام العربي قبل بعض أهل الحكم في الأمة. وهذا عنصر قوة للدعوة التي ندعو للملك عبد الله بن عبد العزيز بطول العمر لكي يرى النبتة التي تتمثل باقتراحه خلال القمة الخليجية الثانية والثلاثين في الرياض يوم الاثنين 19 ديسمبر 2011 وقد باتت شجرة مخضرة الأغصان على مدار السنة.