قوائم المقصوفين جوّيا!

TT

لو سُئل نجوم الدعاية السياسية في «تويتر» و«فيس بوك» وخطباء الفضائيات السياسية، وهم مزيج من أنصار الإسلام السياسي وبقايا القوميين واليسار العربي المندثر والذين يتكرر حضورهم وحديثهم في إعادة لإنتاج مفهوم السياسة المعلبة، التي هي جزء من لعبة الدعاية السياسية بمنطقها غير العقلاني... لو سئل هؤلاء عن دولة اتهمت ما يزيد عن خمسة عشر ألف مواطن بالإرهاب معظمهم من أقلية يتجاوز عدد أفرادها 15 مليون نسمة، ثم اعتقلت خلال تسعة أشهر من العام الفائت قرابة خمسة آلاف واحتجزت أضعافهم في سياق الحقيق، ثم أرسلت طائرات الجيش لتقصف من سمتهم بالانفصاليين لتحصد أرواح ما يقترب من أربعين مواطنا بريئا، وتعتذر عن هذه الحادثة بأنها كانت نتيجة معلومات خاطئة وصلت للاستخبارات وتتعهد بتقديم تعويضات مالية.... إلخ، لما خطر ببال أحد أن تشير أصابع الاتهام لديه باتجاه تركيا أردوغان، تركيا حزب العدالة والتنمية، التي رغم إخفاقها الكبير في احتواء أزمة الأكراد المتصاعدة والأزلية فإن أردوغان وحزبه كانوا وما زالوا إلى أجل غير مسمى أبطال الدعاية السياسية في المنطقة، التي جعلت منهم نموذجا يتمنى الليبراليون والإسلاميون والقوميون وحتى قطاعات من المجتمع الغربي احتذاءه والسير على منواله، فالليبراليون يرون أنه نموذج للإسلام المعتدل، وأنصار الإسلام السياسي يرون فيه قدرة هائلة على الإبداع في إدارة الدولة والضحك على المجتمع الدولي بعدم المساس بالعلمانية للمصلحة، بينما يرى صقورهم أن أخطاء تركيا تدخل في نطاق الاجتهاد الخاطئ ذي الأجر الواحد، ويرفع القوميون عقائرهم بأن قوميتهم لن تجعل منهم مؤدلجين ضد الآخر، وفي النهاية لا يعترف الغرب إلا بموازين القوى، على الأقل الخطاب الرسمي، ليبقى دور المنظمات والجمعيات المختصة في حقوق الإنسان تمارس دورها الإنساني والحقوقي كنوع من التوازن للخطاب السياسي الذي يتعامل مع الدول ككيانات مستقرة قابلة للتفاوض والتحالف، لا يتم مناكفتها إلا وفق لعبة التجاذب السياسي.

مثال تركيا ليس مهمّا، فالتجربة التركية رغم بشريتها وأخطائها وإخفاقاتها في ملف حقوق الإنسان، إضافة إلى براغماتيتها الشديدة في العلاقة مع إسرائيل تظل تجربة سياسية متميزة، لكن الإشكالية في النظرة الملائكية التي تقترب من حدود التقديس، والتي يمطرنا بها ضحايا الدعاية السياسية، وهم في نفس الوقت نجوم الدعاية السياسية المضادّة. أقول هذا تزامنا مع بيان وزارة الداخلية حول أحداث الشغب التي حدثت في المنطقة الشرقية، والتي تعاملت مع الموقف بدقة وحساسية مفرطة لاعتبارات كثيرة، وهو الأمر الذي يمكن أن يلحظه أي منصف في طريقة تعامل الأجهزة الأمنية والخطاب السياسي الرسمي مع مشكلة داخلية نفخ فيها أنصار الدعاية السياسية وكثير من وسائل الإعلام، ليصوروها تمييزا ضد الإخوة الشيعة في السعودية الذين هم جزء من النسيج الوطني العام، كما أن جغرافية مناطق التوتر لا تعكس وجود الطائفة الشيعية المتنوع، الذي يقع في أكثر من منطقة، مما يحيل إلى أن الأزمة ليست ذات صلة بالمذهب أو الطائفة بقدر ما هي ذات صلة بالتشيع السياسي أو ما يمكن أن نسميه مشروع تنظيم القاعدة الشيعي، الذي يحاول المعسكر الإيراني، وهو معسكر ممتد يتجاوز حدود طهران، أن يفرضه كواقع، في شيء يذكرنا ببدايات الأزمة مع رد فعل قطاعات واسعة من المجتمع والإسلاميين، تحديدا تجاه الموقف من تنظيم القاعدة، الذي مر بمراحل كثيرة إلى أن وقعت الكارثة وأصبنا بنيران القاعدة في الداخل، وأصبح المكذبون يشاهدون ألسنة اللهب على مقربة منهم، وهو ما لا نتمنى أبدا أن يحدث في النسخة الشيعية التي يتم التعامل معها بالكثير من الحساسية، وهي متفهمة جدا ومبررة في ظل وجود خطاب متطرف يحاول أن يحشر الجميع في سلة واحدة لدوافع طائفية بغيضة.

امتاز البيان بتحديد قائمة مصاغة بطريقة قانونية لم تصف مثيري الشغب بانتماء طائفي، ولم تحكم عليهم، بل طالبت بتطبيق إجراءات تسليمهم وفقا للأوامر القضائية الصادرة من هيئة التحقيق والادعاء العام إثر عدم استجابتهم للاستدعاء المقدم لهم للمثول أمام الجهات المختصة للتحقيق معهم، وذلك وفق نظام الإجراءات الجزائية خلال الفترة النظامية. وأكد البيان، وأنا أقتبس منه بالنص، أن «هذه العناصر أو المجموعة لا تمثل إلا نفسها، وأن ما تقوم به من عمل ليس امتدادا لمشاعر تخص كل المواطنين».

أعتقد أن درس الثورات في السنة الماضية يجعلنا ننحاز إلى خيار الاستقرار والتركيز في التنمية والإصلاح وتحسين الاقتصاد الذي يتوقع أن يكون الدافع الثاني لدورة الثورات، بعد أن أثبتت ثورات سؤال الحرية أنها لا تستطيع أن توفر الخبز بمجرد إقامة الديمقراطية والانتخابات على أشلاء دول مركزية ذهبت شخوصها وبقيت أعراضها وأهواؤها وخطابها الذي تم تكريسه على مدى عقود، بل أصبحت معارضة الأمس سلطة اليوم جزءا من رداءة الإرث الثقيل الذي خلفته.

ثمة وعي متزايد بدأ يتنامى خارج أسوار محطّات الدعاية السياسية وأعشاشها بضرورة إعادة قراءة سنة الثورات وفق منظور ما قدمته، ويتوقع أن تقدمه للإنسان البسيط للمواطن العادي غير المسيّس الذي يطمح للاستقرار والرخاء، وليس عبر خطابها البرّاق الذي حشد في البداية الأنصار ولفت الأنظار وحاز الإعجاب، لكنه سرعان ما عاد ليفتح الجروح الغائرة على الواقع الحقيقي وليس الافتراضي.. مضى عام الثورات وبقيت الأسئلة معلقة على الأرض الصلبة التي سرعان ما تجفف كل ما لا ينفع الناس من زبد الأفكار.

[email protected]