ورطة الحكم في بلدان الثورات!

TT

لطالما شكل الحكم في الفضاء العربي امتيازا لا تتمتع به سوى خاصة الخاصة التي كانت تقبض على مقاليد الحكم إلى ما لا نهاية. فالحكم كان مرادفا للصلاحيات غير المحدودة والسيطرة الشمولية على أنفاس الشعوب وأفكارها وتحركاتها. والوصول إلى مثل هذه المرادفات مسألة منطقية جدا، عندما يذهب في ظن الحاكم أن كل البلاد ملك له بمن فيها من عباد وأشجار وأنهار وبحار وكل دابة وجماد.

إلا أن أمور الحكم في بلدان الثورات انقلبت رأسا على عقب وأصبح الحكم فيها بالفعل تكليفا صعبا محفوفا بالمزالق ويكاد يقطع كل صلة بمفهوم الحكم من زاوية كونه تشريفا.

وقد لا نبالغ إذا قلنا إن الحكم في بلدان الثورات الثلاث تحديدا، أي تونس ومصر وليبيا، أصبح ورطة بأتم معنى الكلمة؛ ورطة تتطلب الشجاعة والجرأة والاستعداد لسيناريوهات شتى مثل الطرد والتوبيخ والسخط الدائم. وقليلون جدا الذين يصادفهم الحظ ويعيشون تجربة الحكم في مرحلة ما بعد الثورة بأقل ما يمكن من الأضرار وعدم الرضا.

هناك من يعتبر ما يحصل في بلدان الثورات الثلاثة، مع فوارق طبعا، مفارقة غير مفهومة باعتبار أن الحكم السابق للثورات هو ما كان يمثل ورطة حقيقية والمفروض أن الثورات أطاحت بهذه الورطة ورموزها.

وبما أن الزمن السياسي لما بعد الثورة يحاول أن يركن للشفافية وصناديق الاقتراع وتضييق الخناق أكثر ما يمكن على الفساد ثقافة وسلوكا، فإن الحكم في هذه الحالة وتبعا للتغييرات النوعية التي أنتجتها الثورات، أبعد ما يكون عن الورطة بقدر ما هو عمل استعاد طابعه الوطني والنضالي.

إلا أن البون بين ما هو منطقي وما هو واقع ليس قليلا، ذلك أن مؤشرات كثيرة تدل على أن الحكم بالفعل في ما يسمى المرحلة الانتقالية لما بعد الثورة، ورطة مؤكدة على أكثر من صعيد.

إن الحكم في بلدان الثورات الثلاثة ورطة حقيقية؛ لأن النخب الحاكمة الجديدة التي تدير هذه البلدان بشكل مؤقت وجدت إرثا ثقيلا من الفساد والمديونية ونسب فقر وبطالة عالية.

لذلك فإن الممارسات الاحتجاجية المتمثلة في الاعتصامات والإضرابات هي بالنسبة إلى السياسيين الجدد، تعرقل استئناف مسيرة التنمية، خاصة أن نسب الفقر والبطالة بعد الثورة قد تفاقمت، خصوصا في تونس ومصر.

كما أن الممارسات الاحتجاجية المشار إليها تتعارض وضرورة عودة القطاع السياحي الحيوي إلى الحياة، وهو الذي عاش أزمة حقيقية انعكست بشكل عميق على إطارات القطاع وتراجع مداخيل الدولتين التونسية والمصرية من العملة الصعبة. وإلى جانب تأزم قطاع السياحة، فإن الذي زاد الطين بلة أن مناخ عدم الاستقرار يحبط رؤوس الأموال في الداخل والخارج، مما ينعكس سلبا على التشغيل والاقتصاد.

في هذا السياق، نضع دعوة الرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي المعتصمين إلى إجراء هدنة على الأقل لمدة ستة أشهر، وأيضا دعوة البعض في الحكومة الانتقالية المصرية إلى إجازة وتحرير ميدان التحرير من المعتصمين الثائرين. دعوتان من أجل التمتع بفرصة تأمين انتقال ديمقراطي يوازيه انتعاش اقتصادي من منطلق أن شرارة الثورة في جوهرها احتجاج ضد البطالة والمستقبل الغامض والكرامة المهدورة. ولكن في مقابل هذا الموقف المفهوم جدا، فإن موقف الشعوب صاحبة الثورات مفهوم جدا جدا أيضا. فهي شعوب منهكة فقدت قدرتها على الصبر والانتظار الطويل المفتوح. وعلى المستوى النفسي تجاوزت هذه الشعوب مخزون الخوف والتردد والسلبية، إضافة إلى أن النجاح في تحقيق الثورة والإطاحة بالأنظمة الشمولية السابقة قوت من الاعتقاد في الممارسات الاحتجاجية.

إذن الطرفان على حق. وهو لب ورطة الحكم في بلدان الثورات!