ضرورة أن يكون الدستور توافقيا

TT

توضع الدساتير لتحكم الدولة بكل مؤسساتها. والأصل أن الدساتير توضع لتستمر فترة طويلة في حياة الدولة، ولذلك فإن الدساتير لا بد أن تكون محل توافق عام بين كل مكونات الدولة مهما تنوعت هذه المكونات. دستور مصر يجب أن ترتضيه الكثرة الغالبة من شعب مصر إذا أردنا أن تكون مصر لكل المصريين، وإذا أردنا ذلك فلا بد أن يكون الدستور دستورا لكل المصريين، وهذا معنى ضرورة أن يكون الدستور توافقيا.

ما هو معنى الدستور بتبسيط شديد؟

الدستور يوجد على قمة النظام القانوني في الدولة وتعتبر قواعده أعلى القواعد القانونية وأسماها داخل الدولة، ومن ثم فإن البعض يسمى الدستور «قانون القوانين».

والدستور هو الذي يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وينظم السلطة العامة ويحدد العلائق بين أجهزتها المختلفة ويضع الحدود لكل منها، ويقرر حقوق الأفراد وينص على الوسائل الأساسية لضمان هذه الحقوق وإعمالها.

والدستور إذ يضع الحدود لتصرفات أجهزة الدولة ويرسم الإجراءات التي يتعين سلوكها يؤدي إلى تقييد ممارسة السلطة وجعلها في الإطار الذي يبينه ذلك الدستور.

ولم يعد وجود الدستور - في المفهوم المعاصر - قاصرا على نظام الحكم الديمقراطي بالمعنى التقليدي، ذلك أن لكل جماعة سياسية - دولة - في الوقت الحاضر قانونها الذي يضع نظام الحكم فيها أيا كان شكل هذا النظام، هذا القانون هو الدستور.

وإذا كان الدستور هو الذي يبين نظام الحكم في الدولة ويضع للسلطة العامة حدودها التي لا تعدوها وينص على الإجراءات الواجبة الاتباع لبلوغ غايات معينة فإنه بذلك كله يقيد ممارسة السلطة، ومن ثم يكون وجود الدستور هو الضمانة الأولى لممارسة السلطة ممارسة قانونية، ممارسة مقيدة خاضعة لحدود وضوابط معينة.

ووجود الدستور على قمة النظام القانوني في الدولة وبيانه لاختصاصات كل من يمارسون السلطة وحدود هذه الاختصاصات يقيد في الواقع كل السلطات المنشأة، باعتبار أن هذه السلطات تجد سند وجودها في الدستور نفسه باعتباره تعبيرا عن الإرادة العامة المنشئة لتلك السلطات جميعا.

ويترتب على كون الدستور هو قمة النظام القانوني أن كل القواعد القانونية التي تأتي تحته يجب ألا تخرج على أحكامه وألا تأتي بما يخالفها، وإلا كانت بذلك مخالفة للإرادة التأسيسية التي يعبر عنها الدستور. وعلى ذلك فأحكام الدستور - في الأصل - ملزمة للجهاز التشريعي في الدولة كما أنها ملزمة للجهازين القضائي والتنفيذي أيضا.

وينبني على ذلك ما يعرف بضرورة دستورية القوانين، أي ضرورة أن تكون القواعد القانونية التي يسنها الجهاز التشريعي في الدولة متفقة مع أحكام الدستور غير مخالفة لها. كذلك فإن الجهاز التنفيذي، إذ يقوم بعمله المتشعب الواسع، يجب أن يظل دائما في حدود القواعد الدستورية لا يعدوها وإلا اتسمت تصرفاته بعدم المشروعية لخروجها على الدستور أو على القواعد القانونية الصادرة وفقا للإجراءات التي يرسمها الدستور، كذلك فإن الجهاز القضائي في الدولة، إذ ينزل حكم القانون على وقائع معينة، مطالب بأن ينزل على القواعد القانونية نفسها حكم الدستور ليرى ما إذا كانت متفقة معه فيطبقها، أو مخالفة له فيمتنع عن تطبيقها، وهذا هو ما يعرف برقابة القضاء لدستورية القوانين.

وكذلك، ومن ناحية أخرى، فإن وجود الدستور ونصه على حقوق معينة للأفراد يعطي هذه الحقوق صفة دستورية ومن ثم فإنه يجعلها - في الأصل - بعيدة عن يد الممارسين للسلطة ويقيم من هذه الحقوق قيدا على السلطات العامة في الدولة لا يجوز لها أن تتخطاه إلا في الحدود وبالأوضاع والطرق التي يرسمها الدستور نفسه أو ما يحيل إليه من قوانين إذا فرض وأجاز الدستور مثل تلك الإحالة.

وهكذا يتبين لنا أن وجود دستور معين - أيا كان نظام الحكم في الدولة - يجعل ممارسة السلطة مقيدة غير مطلقة نتيجة التزام القائمين على السلطة أحكام ذلك الدستور، إذا خرج القائمون على السلطة على تلك الأحكام انقلب سلطانهم من سلطان قانوني إلى سلطان فعلي يستند إلى القوة المادية وبذلك تخرج الدولة عن أن تكون دولة قانونية.