التوحد والتعددية والتدخل الأجنبي في الثورة السورية

TT

ساد التشاؤم لدى المتابعين للثورة السورية من الخارج في الأيام الماضية بسبب أمرين اثنين: الأول فشل المراقبين العرب الذين دخلوا إلى سوريا في إقناع السلطات السورية بوقف حمام الدم.. والثاني: تعذر الاتفاق بين المجلس الوطني السوري (وهو تحالف واسع لقوى المعارضة السورية تشكل قبل ثلاثة أشهر)، وهيئة التنسيق (وهي طرف معارض صغير بالداخل والخارج). وكان البند الثالث من المبادرة العربية قد نص على ضرورة توحد قوى المعارضة، ووضعها مجتمعة برنامجا للتحول السياسي الديمقراطي للضغط على النظام بإبراز بديل لحله الأمني في وجهه من جهة، وليكون هناك طرف سياسي حاضر للتعاون في قيادة عملية التحول السلمي إن نجحت المبادرة العربية. وقد قيل (من جانب ممثل هيئة التنسيق) إن الوثيقة أو الاتفاق أو البرنامج الذي جرى التوقيع عليه بالأحرف الأولى من جانب رئيس المجلس الوطني، وممثل هيئة التنسيق، بحضور أعضاء من الطرفين، وبعد مفاوضات مضنية على مدى خمسة وثلاثين يوما، ما حظي بموافقة جهات وأطراف في المجلس الوطني، أبرزها «الإخوان المسلمون». ويرجع ذلك في ما ذكره البعض على التلفزيون إلى ثلاثة أسباب: رفض التدخل العسكري الأجنبي دونما إيضاح من جهة أخرى كيف تكون حماية المدنيين المطلوبة من جانب المتظاهرين منذ عدة شهور، وعدم التصريح بهدف إسقاط النظام، وعدم توجيه التحية للجيش السوري الحر والاكتفاء بتحية الجنود الشرفاء الذين رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين!

والواقع أن هذه المطالب المُرَدّة كلها تحت وطأة الهول الجاري في سوريا منذ عشرة أشهر، تشير إلى شيء من عدم الجدية لدى سائر الأطراف، كما تشير إلى ثقافة يائسة عرفتها المرحلة المنقضية لدى سائر الراديكاليات العقائدية اليسارية والقومية والإسلامية. فالأطراف المعارضة السورية جميعا، وفي الأشهر الثلاثة الأولى للثورة - وتحت مقولة المؤامرة الخارجية التي فرضتها سائر الأنظمة الجمهورية الخالدة منذ أربعة عقود - كانت تبدأ خطاباتها التلفزيونية برفض فكرة التدخل الخارجي شأن ما حدث في ليبيا لتنحية العقيد القذافي. بيد أن هذا النفي أو الإنكار صار غير ذي موضوع لحصول أمرين متناقضين: تفاقم القمع وأعمال القتل وسفك الدم والإرهاب من جانب قوى النظام، إلى حدود غير معقولة ولا متصورة، بحيث صار التدخل العسكري الأجنبي أملا من الآمال، كما صار الحدّ الأدنى المرغوب بشدة بالداخل الثائر: الحماية للمدنيين من خلال الملاذات الآمنة، ومناطق خطر الطيران والأسلحة الثقيلة. ولذلك استطاع المعارضون للاتفاق المذكور القول إن رفض التدخل العسكري الأجنبي دونما بدائل لحماية المدنيين هو ضد رغبات الجمهور بالداخل! أما الأمر النقيض الذي يجعل إنكار التدخل أو استحسانه غير مهم فعِلَّتُهُ أن الأميركيين والأوروبيين (والأتراك) قالوا ويقولون إن التدخل العسكري بسوريا (ولو لحماية المدنيين) هو أمر لا يفكرون فيه، ليس بسبب ما حصل في ليبيا فقط؛ بل وبسبب موقع سوريا على حدود إسرائيل ووجود أطراف (بإيران والعراق ولبنان) يمكن أن تتدخل بصورة أكثر ظهورا وتحديا إن تدخل الأتراك أو الأطلسي! ولذلك ما كانت هناك حاجة للمزايدة وطنيا من جانب هيئة التنسيق، ولا كانت هناك حاجة للمزايدة في إرضاء الثائرين المعذبين من جانب «الإخوان» وغيرهم، وإنما كان المطلوب التفكير بصوت عال وعاقل في كيفية حماية المدنيين بالتنسيق مع العرب، الذين جربوا توقيع البروتوكول الذي لم ينفع، وهم اليوم وغدا سوف يجربون وسيلة أو وسائل أخرى للضغط من أجل ذلك.

ويبقى الأمران الآخران اللذان لا أصدق أن الإخلاص أو التعقل كان حليف الفريقين فيهما: مسألة التصريح بإسقاط النظام هدفا، ومسألة اعتبار الجيش السوري الحر جزءا من قوى الثورة. فهيئة التنسيق ما عادت تستطيع الإصرار على التفاوض مع النظام بعد أن جربت ذلك بنفسها وفشلت. كما لا يفيد في شيء الإصرار على إفراد المنشقين عن الجيش بالشرعية، واعتبار البقية الباقية (نحو الثلاثة أرباع) غير شرعية. وهذا على الرغم من تقديرنا لشرف ونبل وشجاعة الذين تمردوا، وعدم فهمنا لسكون الأكثرية العسكرية والأمنية وبخاصة أنهم يرون أمامهم الشجاعة الأسطورية للشبان المتظاهرين، وللمسلحين القلة المدافعين عن أنفسهم وعائلاتهم ومساجدهم وقراهم!

هذه الأمور الوطنية والاستراتيجية الكبرى في زمن الثورة، لا ينبغي أن تُعالَج بهذه الخفة اللائقة بوسائل الإعلام للمزايدة لكن في ظروف مثل ظروف لبنان، وليس مثل ظروف سوريا والعراق وفلسطين. والمنظر الخارجي مهم رغم كل شيء لأنه يدل على مدى التقدير لهذا الظرف التاريخي. وقد رأيت من «الإخوان» السوريين حرصا على ذلك في الشهور الأولى، لكنهم الآن وبعد النجاحات بمصر وتونس والمغرب، عادوا للانكشاف أمام البريق الدموي للسلطة والشعبية ولذائذهما. فزعيم «الإخوان» المصريين يقول إن لديه ما هو أهم من الرئاسة المصرية، وهو المسؤولية عن الأمة والدين! وهكذا فهو يتسنم منبر رسول الله من دون أن يكون لديه تواضعه صلوات الله وسلامه عليه «فذكّر إنما أنت مذكّر.. لستَ عليهم بمسيطر».

إن الذي فعله برهان غليون كان ضروريا ولا يزال. وضرورته ليست آتية من صحة موقف ودعاوى المناع وعبد العظيم، فدعاواهما ومواقفهما مثل قبض الريح، وقد كشفهما المتظاهرون بالداخل قبل علمانيي ويساريي الخارج. وإنما تأتي ضرورة التحفظ والدقة والتزام الوفاق والتواضع لأقصى الحدود (وعلى الشبان المعذبين بالداخل أن يتحملوا ذلك كلَّه) لسببين: أولهما وجود متوجسين بالداخل ممن لم يشاركوا بالثورة بعد لكنهم ليسوا ضدها، والثاني الشعوب العربية والمجتمع الدولي، والتي تزداد أدوارها اليوم وغدا أهمية في نصرة الداخل السوري وترجيح كفته على النظام القاتل. فهناك فئات واسعة بالداخل السوري، وفئات أَوسع في الوطن العربي والعالم الخارجي، صارت تتأمل بدقة كبيرةٍ ما يجري في اليمن وسوريا بعد انتخابات مصر على وجه الخصوص، وسلوك المسلحين بليبيا.

ولكي تنجح الثورة السورية التي كلفت وستكلف نحو العشرة آلاف قتيل وخرابا هائلا على يد نظام الممانعة والمقاومة (وليس الغزاة الإسرائيليين مثلا!)، يكون على القيادة السياسية للثورة الآن أن تحقق إجماعا على برنامجها، وهذا يتطلب عملا مضنيا، وسيستغله حتى المناضلون القدامى الذين صاروا طلاب سلطة مثل بعض الثوريين المستجدين، لكن هذه الوقائع لا تجعله أقل ضرورة ولا أقل إلحاحا، فالثائرون ليسوا فئة واحدة، والمؤيدون ليسوا فئة واحدة، والمسهمون تختلف درجات إسهامهم من دون أن يختلف أو يتجزأ حقهم في المشاركة والمواطنة.

وهناك من تراعى آراؤهم لأنهم مناضلون قدامى، وهناك من تراعى آراؤهم واهتماماتهم لأنهم مناضلون جدد!.. وهناك مَنْ ليسوا هذا أو ذاك لكن آراءهم ينبغي أن تراعى لأنهم مواطنون سوريون. ونحن العرب ينبغي أن تراعى آراؤنا واهتماماتنا، ونحن لا نقبل المساومة على حق أحد من السوريين، وإلا فلماذا الثورة على الرئيس بشار الأسد، لولا أنه لم يذكر غير حقوق شقيقه وصهره وقريبه رامي مخلوف؟.. ولله في خلقه شؤون وشجون!