الحالة السورية والطريق اليمني!

TT

يخطئ من يعتقد أن المبادرة العربية تجاه سوريا تشبه المبادرة الخليجية تجاه اليمن وسوف تشكل مخرجا للنظام من أزمته وتعالج سوء ما آلت إليه أوضاع المجتمع، فالحالتان مختلفتان وتاليا النتائج، وثمة فوارق متعددة بين الوضعين السوري واليمني تشير إلى أن طريق صنعاء غير سالك في دمشق!

خلافا للوضع اليمني الذي تطوقه دول الخليج العربي ويشكل جزءا من استقرارها وتهتم كثيرا بمنع انزلاقه إلى مزالق خطيرة، يتحكم في الحالة السورية ارتباطها بمحور إقليمي، يبدأ بإيران، مرورا بالعراق ولبنان، وتجاهد أطرافه مجتمعة للحفاظ عليه متماسكا وقويا، مما يعني صعوبة القبول بتغيير في سوريا أو تقديم تنازل يمكن أن يمس المستوى الراهن لنفوذ هذا المحور، أو لا يأخذ في الاعتبار مصلحة طهران التي تدعو إلى إشراف إقليمي على الوضع السوري وإلى مشاركة فعالة في معالجته!

وخلافا للوضع اليمني، ثمة كيان صهيوني على الحدود السورية، ولإسرائيل كلمة قوية حول التطورات في بلد يجاورها وتحتل جزءا من أرضه وحافظ نظامه على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، وتاليا من احتمال وصول سلطة جديدة إلى الحكم تهز الاستقرار الراهن. وإذ يؤثر هذا التعقيد على جوهر الموقف الغربي وجديته من الحدث السوري، فإنه يمنح السلطة الحاكمة هامش مناورة تستند إليه للاستمرار في التسويف والمماطلة وتاليا التوغل أكثر في القمع والتنكيل!

وخلافا للوضع اليمني القبلي التكوين، ثمة خصوصية في التركيبة الاجتماعية السورية لجهة التعددية الإثنية والدينية والطائفية، وتفاوت مواقف هذه المكونات من مسار الثورة وعملية التغيير وآفاقها، وتحديدا خوف بعضها على هويته ونمط عيشه من احتمال استئثار بديل إسلامي بالسلطة، مما يفسر في ضوء طابع الكتلة الشعبية المشاركة في الثورة بقاء قطاعات من الشعب السوري في وضع الحياد والسلبية، ولنقل مترددة أو محجمة عن الانخراط فيها. زاد الطين بلة، والخوف خوفا، نتائج الانتخابات في تونس ومصر والتي أعطت الإسلاميين وزنا كبيرا، والأهم إعلانات بعض قادتهم في نشوة انتصارهم عن الخلافة الإسلامية وفرض الشريعة لتطهير المجتمع من الفساد، الأمر الذي يسمح للنظام بمزيد من التحايل والمناورة في التعاطي مع الحلول والمبادرات!

وأيضا خلافا للوضع اليمني، يصح القول إن النظام السوري ينتمي إلى نوع من الأنظمة العاجزة عن تقديم التنازلات والتي لا تقبل أي مساومة على بقائها أو أي تعديلات جذرية في تركيبة السلطة يمكن أن تقصي بعض رموزها، والمرجح أن تخوض معركتها إلى النهاية كمعركة وجود أو لا وجود، وأن يتصرف أركان الحكم وكأنه ليس من رادع يردعهم في توظيف مختلف أدوات القمع الأمنية والعسكرية بغرض إخماد جذوة الانتفاضة أو على الأقل إضعافها وإنهاكها، تحدوهم قناعة بأن للدول العربية والغربية مصالح تركض وراءها على حساب مواقفها ومبادئها، وستأتي إليهم صاغرة، طلبا لها، ما إن تحسم الأمور الداخلية وتعود المياه إلى مجاريها!

يتفق الكثيرون على أنه لولا جديد موقف موسكو ومشروعها المفاجئ بشأن الحالة السورية الذي قدم إلى مجلس الأمن والذي فسر في أحد وجوهه كتحذير للنظام بأنه ليس ثمة فيتو روسي بعد الآن، ولولا قرار مجلس الجامعة العربية بإحالة الملف السوري إلى التدويل، لما كان ثمة جديد في موقف النظام السوري من المبادرة العربية، ولما شهدنا سرعة في التوقيع على البروتوكول القاضي بإرسال بعثة مراقبين لحماية المدنيين!.. والمعنى أن الإيحاء بالتعاون مع المبادرة العربية ليس سوى محاولة للالتفاف عليها، وأن إظهار الرضوخ والقبول يبدو كما لو كان محاولة من قبل السلطات السورية لشراء بعض الوقت كي تتوغل أكثر في القمع بدليل استمرار الحملات الأمنية والعسكرية المتسارعة في غير مدينة ومنطقة سورية مع وبعد وصول طلائع المراقبين العرب، جنبا إلى جنب مع الرهان على خبرتها في تعطيل هذه المبادرة أو إفراغها من أي فاعلية، كإشغال فريق المراقبين بالتباينات والتفسيرات الصغيرة وإغراقهم في التفاصيل بغية احتواء دورهم.. أليس صحيحا ما قيل بأن الشيطان يكمن في التفاصيل؟!

والحقيقة أن المبادرة العربية لا تملك في الحالة السورية حظا كبيرا في النجاح لصعوبة تعاطي أهل الحكم إيجابيا وجديا معها، لأنهم خير من يعرف ماهية النتائج التي ستتمخض عن تنفيذها، وأي وضع ستكون عليه السلطات السورية في حال سحبت القوات العسكرية من الشوارع وكفت اليد الأمنية وأطلق سراح المعتقلين وسمح للمظاهرات السلمية ولوسائل الإعلام العربية والأجنبية برصد ما يجري بحرية.. ألن تكون أبسط نتيجة هي نقل الصراع نحو طور جديد يعزز من قدرات الانتفاضة الشعبية وهامش حركتها وتغدو معه إمكانية احتوائها أمنيا وعسكريا وسياسيا أكثر صعوبة وتكلفة؟!

إذا كان الإصرار على الخيار الأمني والتوغل أكثر في العنف، ورفض اللجوء إلى المعالجات السياسية، أحد أهم الأسباب التي تترك البلاد نهبا للتدخلات والمبادرات الخارجية، فإن العمل على تفادي الآثار السلبية التي بدأت تنعكس في المجتمع السوري، والحرص على عدم انزلاق البلاد إلى حرب أهلية، يشجع على اعتبار المبادرة العربية أحد أهم منافذ الخلاص، سواء بقيت عربية وأكره النظام على التعامل مع بعض بنودها، أو دفعت إلى حقل التدويل!

استمرار المشهد السوري لم يعد ممكنا، لجهة أن تتصرف النخبة الحاكمة كأنها لا تأبه بالمواقف الدولية والعربية، وتواجه الاحتجاجات كأنها تتمتع بحصانة لاستخدام أشنع وسائل القمع والتنكيل، متكئة إلى ردود أفعال لا تزال بطيئة ولم ترق إلى مستوى الحدث ومعاناة الشعب السوري، لكن استمرار الانتفاضة بهذه الصورة البطولية، وما تقدمه من أثمان باهظة في أعداد الضحايا والجرحى والمعتقلين، وزيادة التعاطف الإنساني معها من قبل الشعوب والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الإنسانية، أمر كفيل بإحراج السياسات الرسمية أكثر فأكثر ودفعها لتعديل مواقفها وإكراهها على رفض استمرار ما يحصل وعلى المشاركة في البحث عن مبادرات وحلول مجدية تأخذ في الاعتبار الخصوصية السورية، والأهم تلبي مطامح المحتجين ومطالبهم.