المعركة المؤجلة

TT

آخر هذا الأسبوع، سوف يجرى الإعلان عن النتائج النهائية لبرلمان الثورة المصرية، وهو برلمان كانت انتخاباته قد بدأت مرحلتها الأولى في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وكانت الثانية قد جرت خلال ديسمبر (كانون الأول)، ثم كانت الثالثة والأخيرة صباح الثلاثاء الماضي.

وإذا كنا سوف نطلق على مجلس الشعب الجديد اسم «برلمان الثورة» فإننا سوف نفعل ذلك تجاوزا، لسببين؛ أولهما: أنه اسم على غير مسمى، لا لشيء إلا لأن الذين قاموا بالثورة في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 ليسوا ممثلين فيه بالحد الأدنى المفترض لتمثيلهم فيه، وبالتالي فلا شيء من الناحية الموضوعية يبرر له، كبرلمان، أن يحمل اسم الثورة! بل إن شباب الثورة، وهذا وضع يُؤسف له حقا، هم الأقل تمثيلا على الإطلاق، في برلمان هذا هو اسمه! وهناك بالطبع أسباب كثيرة لغيابهم عنه، غير أن هذه الأسباب ليست موضوعنا في هذه السطور.. أما السبب الثاني، الذي يجعلنا نطلق على البرلمان اسم «برلمان الثورة» تجاوزا، فهو أن مجلس الشعب الذي يكتمل تشكيله في صورته النهائية آخر الأسبوع، إنما يمثل نصف البرلمان فقط، وليس البرلمان كله؛ لأن مجلسا آخر اسمه مجلس الشورى سوف تبدأ انتخاباته خلال أيام، على مرحلتين، لا ثلاث، وسوف تكتمل صورته النهائية آخر فبراير (شباط)، ليكون لدينا وقتها برلمان مكتمل، من مجلسين؛ الأول: مجلس الشعب، والآخر: مجلس الشورى.

وقد كان المفترض أن تجرى انتخابات «الشورى» على ثلاث مراحل، شأنه شأن «الشعب»، إلا أن ارتفاع وتيرة المطالبات بتسليم السلطة من المجلس العسكري الحاكم إلى رئيس مدني منتخب جعل المشير طنطاوي، رئيس «العسكري»، يصدر قرارا، الأسبوع الماضي، يقضي باختزال مراحل انتخابات «الشورى» إلى مرحلتين فقط، بدلا من ثلاث، من أجل تقصير أمد الفترة الانتقالية التي من المقرر لها، حتى الآن، أن تنتهي آخر يونيو (حزيران) المقبل، حتى إذا جاء أول يوليو (تموز) من هذا العام كان عندنا رئيس لمصر جرى انتخابه.

لكن على الرغم من هذه المقدمة الطويلة، فإننا لم ندخل في الموضوع بعدُ؛ لأن الموضوع الحقيقي، في هذا كله، هو ما سوف يكون علينا أن نتعامل معه، بمجرد الانتهاء من تشكيل مجلس الشورى، فعندها سوف يكون على المجلسين معا أن يختارا مائة شخصية تتولى وضع دستور مصر الجديد، وهذا بالضبط هو الموضوع، ولا موضوع غيره تقريبا.

وإذا كان المشير طنطاوي، بقراره الذي اختصر مراحل انتخاب «الشورى» إلى مرحلتين، قد انتقص من المسافة الزمنية الفاصلة بيننا وبين اختيار المائة شخصية، أسبوعين على الأقل، فهو في حقيقة الأمر قد استدعى معركة مؤجلة، لتكون أكثر اقترابا منا، مما كانت عليه، لو كانت انتخابات الشورى قد استغرقت حيزها الزمني الطبيعي!

أما المعركة المؤجلة فهي معركة الدستور، ولا نبالغ في إطلاق اسم «معركة» عليها؛ لأنها كذلك بالفعل - أولا - ولأنها مؤجلة - ثانيا - بدليل أننا سوف نكون على موعد معها بمجرد تشكيل المجلسين معا.

هي معركة؛ لأن أنصار التيار الإسلامي، الذين فازوا بالأغلبية في مجلس الشعب، ومن المتوقع أن تكون لهم أغلبية مماثلة في الشورى، يصرحون علانية، ولا يكتفون بمجرد التلميح، بأنهم وحدهم يملكون حق صياغة الدستور المقبل، دون منازع، أو بمعنى أدق، فإنهم يقولون إن وضع الدستور من شأن البرلمان وحده، وبما أنهم يمتلكون أغلبية فيه، فالطبيعي أن تكون لهم - والحال هكذا - اليد العليا، في اختيار الشخصيات المائة، ثم، وهذا هو الأهم، في شكل الدستور الجديد، وفي مضمونه.

بطبيعة الحال، فإن هذا الكلام، من حيث الشكل الظاهر، صحيح؛ لأن الإعلان الدستوري الذي صدر في 30 مارس (آذار) الماضي، يقول بهذا، بوضوح، لكن هناك في المقابل آراء وجيهة جدا، ترى أن الإعلان الدستوري ليس هو كل شيء، وأن الدساتير في العالم لا يضعها البرلمان، وإنما يخضع البرلمان، في أي دولة متطورة، للدستور، ولا يصنعه؛ لذلك فإن أصحاب هذه الآراء الوجيهة يرون - ومعهم الحق - أنه لا بد من وضع «معايير» يلتزم بها البرلمان في اختيار الشخصيات المائة، وفي صياغة الدستور.

وقد كانت هذه «المعايير» بمثابة «العفريت» الذي ما إن يأتي ذكره، على مدى شهور مضت، منذ إصدار الإعلان الدستوري، حتى يتكهرب الجو السياسي في البلد، وحتى تنقلب الحياة السياسية كلها رأسا على عقب.

نحن إذن في انتظار أن تبدأ معركة مؤجلة، وهي معركة صعبة؛ لأن كل طرف من طرفيها عنده مبرراته التي يمكن استيعابها.. وإذا جاز لنا أن نقول: إن الطرف الأول، المتمثل في التيار الإسلامي عموما، معه مبررات شكلية، وأيضا دستورية، استنادا إلى ما يقول به الإعلان الدستوري، فإن الطرف الثاني، المتمثل في التيار الليبرالي، يستند إلى مبررات تتعلق بالمضمون، لا الشكل، ثم تتعلق أكثر بمنطق الأمور؛ لأن الإعلان الدستوري إذا كان قد أسند مهمة وضع الدستور إلى البرلمان بمجلسيه، فإن الإعلان الدستوري في أي بلد ليس قرآنا منزلا من السماء، وحين قال الإعلان إن مهمة وضع الدستور موكولة إلى البرلمان بمجلسيه، فإن خطوة كهذه قد تبين خطؤها لاحقا، وكان رأي فقهاء الدستور، ومعهم رجال القانون، وقبلهم عقلاء الوطن، ولا يزال رأيهم، أن الدستور لا يمكن أن يُترك لأغلبية برلمانية، أيا ما كانت؛ فالدستور يضعه حكماء البلد المختارون، بحيث يأتي بمواده المختلفة معبرا عن آمال وطموحات كل مواطن، في المستقبل، وليس عن توجهات جماعة فازت بأغلبية في برلمان.

ولن يكون من الممكن الخروج بالدستور من أسر الأغلبية إلى يد المجموع، إلا من خلال طريقين لا ثالث لهما، أولهما: التوافق بين مختلف القوى السياسية حول «المعايير» التي يجب أن تكون حاكمة لمهمة وضع الدستور من أولها لآخرها.. أما الطريق الثاني فهو أن يكون المجلس العسكري مع الليبراليين «إيد واحدة» في هذا الطريق.

ولو أن أحدا سأل عما إذا كان الطرفان (العسكري والليبراليون) ليسا «إيد واحدة» فسوف يكون الجواب أنه في كل مرة كان «العسكري» يسرب خلالها أنباء عن نية عنده في أن يضع «معايير» من هذا النوع، لم يكن يجد سندا يذكر، من جانب التيار الليبرالي في إجماله، وكان يواجه، في الوقت ذاته، هجوما كاسحا من التيار الإسلامي، فلا يجد المجلس العسكري مفرا، والحال هكذا، إلا أن يسحب تسريباته، ويعتذر، بل ويقر بأن مهمة وضع الدستور من شأن البرلمان وحده!

في كل مرة، كان التيار الليبرالي يخذل «العسكري» في معركة الدستور، وكان المجلس يتراجع عما بدأه، ولسان حاله يردد ما كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يقوله في مواقف مماثلة؛ إذ كان يستعيذ بالله من ضعف المؤمن وقوة الكافر.. مع الفارق بين الموقفين طبعا.. موقف سيدنا عمر زمان.. وموقف «العسكري» هذه الأيام.. فليس لدينا في موضوعنا مؤمن وكافر، وإنما لدينا طرف يتعين أن يكون أقوى، وطرف آخر يتعين أن يتوقف عن استعراض عضلاته.