من قارئ إلى الصحافيين فقط!

TT

هل يمكن الحديث عن الصحافة، في هذا الحضور الكثيف للسياسة؟ الواقع أنه ليس هناك انفصال بين السياسة والصحافة. فكلتاهما مكملة للأخرى.

مع ذلك، في هذا الحديث اليوم، لن أتكلم عن علاقة الصحافة بالسياسة، إنما عن الصحافة، كفن وأسلوب، وعن ألوان الصحافة المختلفة. وقد يدهش القارئ عندما أقول إني أتكلم عن الصحافة، من موقعي كقارئ مزمن، وليس من مكاني المتواضع كصحافي وكاتب محترف. كل غرضي المساهمة في تطوير وصقل فن الكتابة الصحافية، في عصر تواجه فيه الصحافة العربية والعالمية منافسة حادة، يكسبها الإعلام المرئي والمسموع.

في حديث يكاد أن يكون خاصا بالصحافيين فقط، ولا سيما الجيل الجديد منهم، أبدي أولا خوفي من اللغة العامية، على اللغة الصحافية التي باتت أداة الثقافة. والأدب. والتفاهم، بين مئات الملايين من العرب. لست عالم لغة. إنما أحرص على المبادئ الضرورية في الإعراب. فهي كجدول الحساب. «الشرق الأوسط» و«الحياة» ملتزمتان، بشرف وغيرة على العربية. أشعر بالحزن عندما أجد صحفا كبرى، «الأهرام» مثلا، تتسامح مع أخطاء محرريها وكتابها. أين ذهب المصححون الأزهريون؟ هل استشهدوا في «ميدان التحرير»؟ أم أن النائب العام شنقهم «سلفا» مع مبارك والعادلي؟!

الكاتب الصحافي المتميز هو الساحر الذي يضفي لمسات من جمالية الأدب، على الكتابة السياسية الجافة. هكذا، فعل عباقرة من أمثال التابعي. المازني. تويني. هيكل. كامل الشناوي. والسوري نزيه الحكيم الذي كتب طه حسين مقدمة ترجمته لكتاب أندريه جيد (الباب الضيق). ثم بات منسيا. فالصحافة بخيلة في الوفاء. ضعيفة الذاكرة. تنسى عباقرتها بمجرد رحيلهم.

«البلاغة الإيجاز». و«خير الكلام ما قل ودل». في عصر ثرثرة الإنترنت، وألعاب الفيديو، لم تعد الافتتاحية والمقالة السياسية إنشاء مملا. بات التحليل السياسي مكثفا. مختصرا. ومدعوما بالمعلومات. لا بأس على الكاتب إذا تدخل شخصيا بالنص. وإذا تجاوز العرض التحليلي، ليبدي موقفا. ورأيا، من دون فرض على القارئ. صحيفة أو كاتب بلا موقف. أو رأي، طبق بارد. بلا نكهة. بلا لون. بلا مذاق. قوة الكاتب في الإقناع، تتجلى في قدرته على الربط بين مشاهد وأحداث وظروف عربية وإقليمية. فآلام العرب وآمالهم واحدة. لا اجتزاء فيها. لا انتقاء. لا فصل بينها. كل ذلك يتطلب من الكاتب المحترف متابعة يومية متواصلة. علاقة وثيقة بصناع الحدث والقرار. معرفة عميقة بالمجتمعات العربية، ناسا. تاريخا. واقتصادا.

العربية، في ثرائها الخصب، لغة المترادفات. كان عذابا كبيرا لي أن أتجرأ على الأسلوب واللغة. فأستخدم النقطة في موقع الفاصلة. ثم وجدت أن النقطة تنهي بحسم الإسهاب والاسترسال. استعملت أيضا في التعليق والمقالة الأرقام والتأريخ. فهي تحدد زمن الحدث وعصره. وإيراد سن صانع الحدث يعين القارئ على استكمال تصوره وانطباعه الشخصي عنه. أشعر بالارتياح. فقد بات هناك صحافيون وكتاب عرب كبار يستعينون بالأرقام والتواريخ. ويستخدمون النقطة بديلا للفاصلة.

إلى سنين قليلة خلت، ظلت «لوموند» تدرج التفاصيل الحارة للمشهد السياسي على الهامش! تماما كما تفعل المطبوعات الفكرية الشهرية والفصلية المتخصصة. عمدت منذ تفرغي نهائيا للكتابة الصحافية إلى دمج هذه التفاصيل في صلب التحليل. بل تناولت الإسلام السياسي الذي كان في الثمانينات «تابوها قداسيا» تتجنب الصحافة تناوله. أضفى كل ذلك حيوية وحركة، على العرض والتحليل، بحيث أثار اهتمام القارئ، وشغفه في المتابعة. غير أن إيراد أسماء الأشخاص والتنظيمات، يتطلب قدرا كبيرا من تحمل النقد، والتهجم على الكاتب، قد يصل أحيانا إلى التهديد بالإيذاء.

«التحليل الإخباري» غير التحليل السياسي. فهو أسرع في التعليق على الحدث الطارئ. بل هو أشبه بفيلم تسجيلي قصير. هنا لا يظهر المعلق. يقف كالمخرج وراء العدسة (الكاميرا). قد يبدأ التحليل بلقطة من الشارع، لينتقل إلى تقديم انطباعات تحليلية وتفسيرية سريعة عن الحدث. تطوره. ونتائجه.

أهمية التحليل الإخباري تتجسد في استفادة التلفزيون من فجائية الحدث الطارئ، في توجيه الرأي العام. الصحافة الأميركية سيدة هذا اللون الصحافي، فيما تراجعت الصحافة البريطانية في تقنية إخراجها. وفي عمق مقالتها السياسية، مع ذوبان الإمبراطورية، وتقلص دور بريطانيا واهتماماتها الدولية. ليست هناك وزارة للإعلام في الديمقراطيات الغربية. إنما هناك ملحقون. ومستشارون. وخبراء دعاية وإعلام. هؤلاء يعملون في مكاتب صناع القرار سرا. وعلنا. وبلا كلل أو ملل، في تزويد الصحافيين والمعلقين، بمعلومات أو تحليلات إخبارية سريعة. الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حققت نجاحات باهرة في إطلاق مجسات (بالونات) اختبار للرأي العام الإسرائيلي. ولتضليل الشارع العربي. وللتأثير على الرأي العام الدولي. وزارات الإعلام العربية أجهزة ثقيلة الحركة. غير مؤهلة للقيام بهذه المهام الذكية. الناطق الصحافي في قصر صانع القرار ما زال أبكم. كان هيكل الاستثناء الوحيد. فقد خدم نظام عبد الناصر، بأكثر مما خدمه كل وزراء الإعلام المتعاقبين.

في عملي كمراسل لوكالة أنباء، لا أتذكر أني استطعت الحصول على خبر أو تصريح من الراحل أسعد كامل إلياس الناطق الصحافي في قصر الأسد الأب. عندما حل محله الصحافي المحترف جبران كورية استطاع أن يضع اسم سوريا على الخريطة الإعلامية. ثم غدا مستشارا سياسيا يخفف بذكاء حرفته الصحافية، من جمود وجهامة سني الخرف الرئاسي، في أواخر عمر الأب.

التحقيق الصحافي (الريبورتاج) قادر على اجتذاب القارئ بمواضيعه وعناوينه. بلغ الراحل سليم اللوزي شأوا رفيعا في تحقيقاته السياسية الجريئة، فيما كان المحرر الثقافي جهاد فاضل يثير قضية ثقافية، لا تقل أهمية عن القضية السياسية.

الصحافة العربية لم تطور، بعد، فن التحقيق السياسي، ليغدو الخبر رواية. أو قصة (Story) ممتعة. ما أحرى بالصحافة العربية الأسبوعية، اللجوء إلى التحقيق الصحافي في موقع الحدث، لاستعادة دورها المتراجع. وأذكر هنا بفائدة استخدام الفعل المضارع. فهو يضفي الحركة على الريبورتاج والرواية الخبرية.

العنوان موهبة وحرفة. العنوان المبتكر يميز الصحافي الناجح عن الصحافي التقليدي. العنوان تلخيص لأهم ما في الخبر والتعليق. أرثي للصحافي الذي يضع عنوانا في كلمات متواصلة على سطرين. سخرية التورية الذكية مطلوبة في العنوان. السخرية الناعمة تفتح شهية القارئ للقراءة، حتى لموضوع شديد العادية.

«المقابلة الصحافية» سلعة فاخرة تعتز الصحيفة والمجلة بتقديمها وإبرازها. الصحافي ينسى أنه طبيب نفسي. لا يعرف أن المسؤول ينطوي دائما على خوف متوتر من السائل. الصحافي الحكيم يبدأ بالأسئلة الهينة/ اللينة. ثم يصعد بحرارة السؤال عندما يأنس إليه المسؤول. في مجتمع «ذكوري» عربي، الصحافية أنجح من الصحافي في المقابلة الصحافية. مع ذلك، أعتقد أن الوقت قد حان لتحويل ببغاوية السين والجيم، إلى انطباعات وجولات، في فكر ورؤى المسؤول، الأمر الذي يتطلب صحافيا رفيع المستوى في السياسة. وحرفة الكتابة. ربما خيبت قارئا كان يرغب في حديث في السياسة. عذري أن الصحافة حديث يحلو لي كلما ادلهمت أحداث وفواجع السياسة. وما زلت تلميذا في مدرسة الصحافة. لا أعرف، بعد هذا العمر الصحافي الطويل، مهنة غيرها. ولا لغة سواها. ولا امرأة بديلة لها.