ثورة على عبد الرحمن الراشد!

TT

عبد الرحمن الراشد نجم التعليق السياسي اليومي بلا منازع، بالنسبة لي كان رفيق الصباحات الباكرة حيث كنت وأصدقاء في المهنة نتبادل الحوار عادة انطلاقا من تحليلاته اليومية للأحداث السياسية، كما هو الحال محليا لداود الشريان، وعربيا لحازم صاغية، ودوليا لفريد زكريا مع حفظ الألقاب للجميع.

خصوصية الراشد دون الآخرين تأتي من كونه علامة مسجلة لدى خصومه من الإسلاميين الذين يرون فيه مؤشرا على الحالة الليبرالية في الخليج، بل وينسجون أوهاما عريضة حول طبيعة علاقاته الواسعة بالدوائر السياسية في الغرب، وكلنا يتذكر الحوار المطول الذي أجري معه في ملحق جريدة «المدينة»، وكيف أن سقف الأسئلة انخفض إلى درجة سؤاله عن صورة شخصية له مع الرئيس الأميركي جورج بوش، الأمر الذي ازداد سوءا من قبل اللاراشديين بعد أن تولى الراشد قناة «العربية» والتي ولدت في ظروف صعبة، وكان الكثير يتوقع لها أن لا تصمد طويلا أمام منافسة «الجزيرة»؛ إلا أن الراشد استطاع وبرشاقة مهنية أن يجعل منها أكثر مصداقية ودقة وجرأة في بعض الملفات الإقليمية، نائيا بها عن الأدلجة والدعاية السياسية إلى الخبر المحايد أحيانا والموجه أحايين أخرى، بما لا يصل إلى حدة «الجزيرة» ولا إلى الحياد البارد للقنوات الغربية التي تبدو مدبلجة أكثر من كونها ناطقة بالعربية.

ما سبق ليس مديحا لشخصية ليست عابرة في تاريخ الصحافة العربية، وإن كان يستحق المديح والإشادة لكنها شهادة لا بد من قولها كتوطئة لقراءة نوستالجية للراشد المحلل السياسي على حساب الراشد ربان الإعلام المرئي المنحاز للصورة الخادعة، والحدث السريع، وضغط المنافسين؛ حيث أزعم أن الشخصية الثانية أثرت تدريجيا على الراشد السياسي منذ ارتهانه للإعلام المرئي وبلغت ذروتها مع حدث الأحداث «الربيع العربي» و«الثورات»، بين قوسين للضرورة العلمية.

مع «الثورات» تباين فيها موقف الراشد تبعا لاختلاف الإعلام المرئي والجديد وارتباكه في قراءة المشهد، وليس أدل على ذلك من قراءة متفحصة لسلسلة مقالات الراشد في مرحلة الثورة وما بعدها، والتي حملت في البداية تفاؤلا كبيرا ونفسا ثوريا تجلى في عبارته ذات المنزع العاطفي غير المعهود منه؛ حيث وصف ما حدث بأنه خطوات نحو «عصر العدل السياسي المنشود» وأن الإسلاميين الذين لم يصنعوا الثورة وتحفظوا عليها منذ البداية ليسوا إلا متبنين «للفكر الليبرالي» لأنهم احتكموا «للصندوق الانتخابي والقبول بمبدأ الحريات والاعتراف بالحقوق والحريات للجميع.. وكلها قيم ليبرالية»!

إذن نحن بحسب عبارة الراشد في مقال آخر «قد نكون حقا أخطأنا في فهم هؤلاء الأصوليين الذين حرموا من الحكم بحجة التطرف، وقد يكونون مجرد ثعالب سياسة»، لكن الأمر ليس هذا ولا ذاك فلا عصر العدل السياسي يلوح في الأفق وليس الدخول في لعبة الانتخابات بوعي مسبق بما ستؤول إليه يدل على تلك الخيول الجامحة في مضمار الحريات الليبرالية، فقبول الديمقراطية كأداة مرحلية للوصول للحكم جدل أخذ طريقه طويلا في الحوار داخل أروقة الإسلام السياسي بعد الانقلاب على التراث التنويري الذي أسسه الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وآخرون كانوا يؤسسون لدولة مدنية لا تتعارض مع الهوية الإسلامية، وإن كانت لا تعبر عنها بسبب انفصال الشأن السياسي عن الديني كجزء من اتساع مفهوم المسكوت عنه في التصور الإسلامي للفعل الإنساني والذي جزء منه إدارة شؤون الحياة.

عربيا كان جدل «الإخوان» كبيرا حول أطروحة سيد قطب والأطروحة المضادة لها «دعاة لا قضاة»، وعلى الصعيد الخليجي كانت أعمال عبد الرحمن عبد الخالق، وخاصة رسالتيه في مفهوم العمل الجماعي والموقف من الديمقراطية، إضافة إلى الكتاب المثير للجدل «المسار» لمحمد أحمد الراشد أو عبد المنعم العزي والذي يمكن اعتباره خطة تفصيلية لبرنامج سياسي انقلابي، أحد أهم مكونات التربية الحركية داخل صفوف الجماعات الإسلامية. باختصار، إن مراجعة يسيرة لأطروحات الإسلاميين في الثمانينات وما بعدها تقودنا إلى كم هائل من المؤلفات حول الإسلام والديمقراطية، وكيف أن الأخيرة ليست في أحسن حالاتها إلا نسخة مشوهة عن مفهوم الشورى.

من جهة أخرى لا يمكن القول: إن قيم الليبرالية، والتي عادة ما تطرح بسبب إشكالات احترازية بديلا عن العلمانية لأسباب يطول شرحها، هي فقط أدوات معزولة عن سياقاتها الفكرية، وشروط تطبيقها على الأرض عبر برامج سياسية واضحة ومحددة؛ ذلك أن الحريات السياسية هي فرع صغير من الحريات الفكرية والثقافية التي لا يمكن أن تنفصل عنها، فأن تبتلع مشاركة أحزاب علمانية وقبطية واحتمال فوزها ولو في دورات لاحقة، بينما تغص برواية أدبية أو كتاب فكري نقدي، يدل على أزمة أبعد من مجرد خطاب غير مدرب على السياسة، لأنه لم يعط الفرصة حين كان في ضفة المعارضة.

وليس مقابل الادعاء الليبرالي الذي وصف الراشد به تجربة مبارك وبن علي التطبيق الليبرالي الذي يرى أن الثورات جاءت به، وقارنه بتجربة اليابان الصناعة والهند الروحية إلى روسيا الشيوعية، فكل هذه التجارب كانت التعددية فيها مطروحة كخيار أرضي وواقعي ليس مستندا إلى شعارات دينية مطلقة وإن كانت تنتمي إلى أحزاب تؤمن بالشمولية بمفهومها الدوغمائي، إلا أن الشمولية السياسية سرعان ما يتم إثبات فشلها على الأرض مع أول اختبار تعددي؛ بخلاف الشعارات الدينية التي ستعيد إنتاج الادعاء الليبرالي كما يصفه الراشد، ولكن باستبدال الطربوش بالعمامة؛ ليكون حكم الفرد مفرق الدم بين العمائم كما هو الحال في التجربة الإيرانية وتجربة السودان وتجربة حماس وهي تجارب تساوي فشل التجارب الاستبدادية لكن تفوقها في جوانب أخرى كالاقتصاد وتضييق الخناق على الحريات الاجتماعية، وهو الأمر الذي تحدث عنه الراشد طويلا في نقده للتجربة الإيرانية والسودانية وتجربة حماس؛ بل وانتقد في سياق آخر إساءة استخدام الأحزاب الدينية المتنافسة للدين والمساجد في أغراضها الانتخابية، حيث أكد الراشد في مقال آخر أنها: «حشدت ملايين المصوتين لصالحها عبر آلاف المساجد ووسائل الإعلام، تخوف الناس من الليبراليين والأقباط.. النتيجة نحو 65% من الأصوات كسبها الإسلاميون! إذن أين الديمقراطية؟» لكن تساؤل الراشد السياسي قابله في مقال لاحق بإجابة ليست سياسية حيث رأى ضرورة عدم التعجل في الحكم على نتائج الربيع العربي.

هذا الاختلاف بين تناولين لمسألة واحدة تكرر في ما يمكن تسميته «استحلاب الثورات» للتأثير على واقع الدول التي لم تمسها رياح الثورة، وهي ليست دول الخليج، فحسب باستثناء خصوصية الحالة البحرينية والتباساتها الطائفية، فهناك المغرب والجزائر والأردن، فالراشد يرى أن «المغرب اختار الإصلاح السياسي لأنه أرخص وأهون، سلم الحكومة لجماعة إسلامية معارضة.. كل المؤشرات تدل على حنكة الملك وشجاعته، ومع هذا لن تسكت المعارضة التي تعرف أن ما فشلت فيه عبر الانتخابات تريده من خلال المظاهرات» لكنه عاد ليطالب بالخيار الأرخص والأهون على حساب الأصعب للبلدان الخليجية، فمع اعترافه بأن الخليج من أكثر «المناطق تقدما في التعليم والاختلاط مع العالم المتقدم» إلا أنه «من جهة أخرى من أقل دول العالم تقدما في المأسسة السياسية. ولولا البحبوحة الاقتصادية لكانت الأوضاع غير قابلة للاستمرار» ليؤكد لاحقا بأنه «لا مناص لدول الخليج من السير في طريق الإصلاحات السياسية إن كانت تريد مسابقة الأحداث» والمقصود بالأحداث هو انعكاسات الربيع العربي على دول الخليج.

التلويح بالثورات عند الراشد قابله ارتباك في قراءة الحدث البحريني، وهو الزلزال المفاهيمي الذي ضرب منطقة الخليج، كما وصفه الراشد ذات مرة، وأتفق معه، هذا الارتباك تجلى في مطالبته الأخيرة النظام البحريني بالشجاعة في «مواجهة المطالب باعتماد المعقول منها حتى تسد الباب على الرياح الإيرانية» في حين أن الإصلاح السياسي يقوم على قراءة توازنات داخلية وليست لمجرد الاستجابة الخارجية، لا سيما أن الفعل الخارجي لا يلتفت إلى دعوات الحوار أو محاولة استيعاب قوى المعارضة والنأي بها عن الارتهان أو الاستقواء بالخارج، وهو الأمر الذي استنكره الراشد بحسه السياسي الاستباقي في بدايات الأزمة البحرينية، حيث أكد أن ثمة مخاوف من إيران في: «استغلال وتوسيع أحداث البحرين وتحريك كل حلفائها، مثل حزب الله في لبنان ومقتدى الصدر المقيم حاليا في إيران، لصرف الانتباه عن أزمتها الداخلية، وتقديم نفسها المدافع عن شيعة العالم. لا أحد ينكر إشكالية البحرين وعدالة بعض المطالب الأصلية للمعارضة لكنها بكل أسف تحولت اليوم إلى قميص يرفع في حرب طائفية قذرة»، والسؤال لماذا عاد الراشد الإعلامي ليطالب بالاستجابة للقميص الذي لم يزل مرفوعا رغم كل محاولات استيعاب المعارضة من قبل الحكومة البحرينية؟!

من نافلة القول: إن ثمة الكثير مما يجب عمله في الخليج على مستوى تحسين مستوى المعيشة ورفع كفاءة الإنسان والاستثمار فيه؛ إلا أن ربط ذلك بالثورات التي لا يتفق الجميع على تشخيصها ثورات ناجزة ومكتملة، كما أن وضع مسبباتها ونتائجها في سلة واحدة لا علاقة له بالقراءة السياسية للحدث، هو أشبه بحصاد إخباري يجمع مشاهد متفرقة في نشرة واحدة، واللافت أن الراشد السياسي يوافق هذا الرأي في مقال آخر حيث رأى ضرورة «التمييز بين الثورات، والأسباب التي دفعت لهذه اليقظة المفاجئة التي لا يمكن بسببها مقارنة ربيع العرب مثلا بربيع أوروبا الشرقية الذي جاء نتيجة طبيعية لسقوط الاتحاد السوفياتي».

الأكيد أن الربط بين استحقاقات سياسية والتلويح بخطر انعكاسات الثورة يدل على وجود ارتباك في فهم ما جرى، وربطه ببعضه بالحالة التونسية لا سياسيا ولا اقتصاديا كانت لتشبه الحالات الأخرى المصرية والليبية واليمنية؛ فضلا أن تتشابه هذه جميعها مع وضعيات دول لم تقم فيها ثورات كالخليج والمغرب والأردن، ومجرد تأمل الفارق الكبير بين مفهوم الدولة والسلطة والحكومة بما تحمله من أداء على الأرض؛ يخلق الفوارق بين هذه المفاهيم الثلاثة التي ضاقت في بعض تجليات الثورة؛ لتصل إلى حد التماهي حتى بالشعب، كما هو الحال في الثورة السورية، حيث غدا فيها حزب البعث هو المحدد لما هو سوري وغير سوري.

في الحالة المصرية، فإن سقوط الحكومة لم يسقط الدولة ولم يمس النظام إلا في قطاعات كالداخلية والأمن، ومن جهة ثالثة فإن سقوط النظام في اليمن لم يكن ليغير كثيرا من الأوضاع في وضعية لم تترسخ فيها مفهوم الدولة، وكانت السلطة موزعة على قوى سياسية على الأرض كان نظام علي عبد الله صالح حلقة الوصل فيها.

حديث الراشد الإعلامي فيما يخص ربط الإصلاحات السياسية المنشودة في الخليج بالثورات والربيع العربي كان مباينا للراشد السياسي الذي قرأ ذات مرة قرار الملك عبد الله في التحاق المرأة بالعمل السياسي تمثيلا وتصويتا بشكل مختلف حيث علق أن: «كل القرارات التي اتخذها العاهل السعودي في مجال المرأة، ومجال الإصلاح السياسي والاجتماعي عموما، لم تكن سهلة أبدا، لم تكن بالضرورة شعبية، وليس لها مردود سياسي أو شخصي، إنما قرارات بالغة الأهمية، وفي نفس الوقت بالغة الحساسية».

هل يمكن القول: إن ثمة مسافة فاصلة بين عبد الرحمن الراشد السياسي وعبد الرحمن الراشد رجل الإعلام المرئي كما هي الهوة عادة بين فعلي التأمل والممارسة النقدية والاستجابة العاطفية لمشهد مؤثر على الشاشة مصحوب بمؤثرات صوتية، وهي حالة أشبه بالعرض المصاحب لأزمنة الثورات تتلبسنا جميعا وكثيرا بأشكال غير واعية؟

أذكر ذات مرة أنني انهمرت باكيا وأنا أشاهد مجددا مقطع التونسي وهو يقول: «بن علي هرب» ثم بعدها بساعات اكتأبت بشكل حاد وأنا أقرأ تحليلا اقتصاديا مدعوما بالأرقام للاقتصاد المصري في حال بقاء حالة اللاحسم هناك.

بين هذا وذاك تظل القيم الإنسانية على المحك في زمن التحولات الكبرى.. ذات مرة نعى دانتي الذين يقفون على الحياد حين تكون القيم الإنسانية مهددة بالخطر.

كل التقدير للأستاذ عبد الرحمن الراشد.

[email protected]