سوريا تريد «حماية إلهية»

TT

المعارضة السورية لا ترى حلا ولا أفقا من دون تدويل. في المقابل «لا توجد دولة واحدة تريد تدخلا عسكريا في سوريا»، إذا ما صدقنا كلام الأمين العام لجامعة الدول العربية. العرب يخشون ترددات الزلزال السوري، ويطالبون قوى المعارضة بتوحيد صفوفها، وبلورة أفكارها. المعارضة نفسها يبدو أنها تزداد تشرذما وتباغضا. برهان غليون لسوء الحظ لا يحظى بشعبية كافية. الرجل الأكاديمي المثقف يبدو أكثر توازنا وعقلانية من أن يحتمله مزاج شعبوي عاصف وغاضب كالذي تمر به المعارضة السورية الآن. في السر ثمة من يعتبر غليون أسيرا لضغوط خارجية غربية، وهناك من يرى علاقاته التركية مشينة، أما الإسلاميون فلا يستسيغونه بسبب توجهاته العلمانية، في حين يقول أعضاء في المجلس الوطني جهرا، إنه لا بد من انتخاب شخصية أخرى بأسلوب أكثر ديمقراطية، تحظى بقبول أكبر، في أسرع وقت. بعض المعارضة يتهم البعض الآخر، بأنهم شبيحة عند النظام ومزدوجو المهمات، بينما النصف الآخر يتهم النصف الأول بالعمالة للغرب.

على الأرض وفي الداخل، الوضع ليس أحسن حالا. مخاوف رئيس الوزراء التركي أردوغان من حرب أهلية ليست أوهاما خيالية. القتل والثأر الطائفيان باتا من يوميات الثورة. أن يكون النظام هو الذي يدفع بها أم جماعات سنية متطرفة، لا يهم، الأهم أن الفتيل الطائفي اشتعل وتوهج. الغضب من النظام، والاحتجاجات ضده، بدأت تتصاعد، في الشهر الأخير في كل المحافظات حتى تلك التي كانت هادئة لغاية الآن، في القامشلي كما في حلب ودير الزور، وعسكرة الثورة متواصلة، وإن أنكر المعارضون. النظام نفسه يتصدع، ويفقد سيطرته على بعض أحياء حمص، وريف دمشق وحتى ريف حلب وإدلب، لكنه لا يزال قادرا على الصمود، وربما لفترة مؤذية وطويلة، إذا ما أصغينا لناشطين ميدانيين. أي أننا أمام سيناريوهات عسكرية تشبه حربا أهلية، يتقاتل فيها شبيحة النظام العلويون في بعض المناطق الساخنة وحلفاء لهم منتفعون من طوائف أخرى في مواجهة غالبية سنية تزداد تطرفا بتزايد كم الدم الهادر، المسفوك بالمجان.

الثوار على الأرض يخبرونك بأن الوضع عالق في عنق زجاجة، والجميع يختنق. هناك الموت والقمع والتعذيب للثوار في السجون والفقر والعوز والبرد بلا مازوت للأهالي، وحياة معلقة حتى إشعار آخر. أما النظام فعليه أن يتعايش كل يوم مع مستجدات جديدة، من قطع طرق، إلى هجوم على أمنه وشبيحته، وحتى تفجير مقراته العسكرية.

رغم ذلك، الثوار عاجزون وحدهم عن حسم معركتهم لصالحهم، دون تدخل خارجي، بحسب رأيهم، لكنهم محكومون بالاستمرار، لأنهم باتوا ميتين على أي حال، إن لم يكن برصاص رجال الأمن، فتحت سياطهم ونيران تعذيبهم في السجون. ولا يستبعد ثوار في حال ترك الوضع للتوازنات الداخلية أن يتمكن النظام من سحقهم بالفعل. هذه الحسابات هي إحدى الأسباب الرئيسية التي تجعل المعارضة تصر على التدويل، وترفض استمرار البعثة العربية التي لا يمكنها إلا أن تكون مسالمة، ودبلوماسية، وتأخذ وقتها في التقصي، دون أن تغضب أيا من الأطراف. وكان ناشطون سوريون عبروا عن سخطهم ويأسهم من الطريق المسدود الذي وصلوا إليه، دون أن يتحمس أي طرف للتدخل لنجدتهم بأن كتبوا متهكمين على إحدى لافتاتهم: «الشعب يريد حماية إلهية».

الخطاب الأخير للرئيس بشار الأسد، جاء متأخرا جدا، يحاول أن يفتح كوة في الجدار السوري الأصم، متحدثا عن ركيزتين: الإصلاح ومحاربة الإرهاب (أي القضاء على المعارضة المسلحة)، طارحا فكرة العفو عنها. المعارضة على الأرض ترفض أي حوار، لأن ثقتها بوعود النظام تساوي صفرا، وبدل «الإصلاح» تنادي بـ«إعدام الرئيس» و«إسقاط النظام»، وأمام كلامه عن «محاربة الإرهاب» لا تقبل بأقل من «عسكرة الثورة» وإطلاق يد الجيش الحر ومن معه من محاربين أشاوس.

الوضع يتعقد إذن في سوريا، وهو ما يجعل خبراء غربيين يزورون إسرائيل، ويلجأون إلى مراكز أبحاث هناك، على اعتبار أن الدولة العبرية هي الأقدر على فهم ما يدور حولها. لكن باحثين إسرائيليين يقولون، إنهم هم أيضا لا يستطيعون الإحاطة بالوضع السوري، أو تصور المستقبل، وإنهم لا يملكون غير ترقب الأحداث، مع البقاء في حال يقظة وحذر شديدين.

للمرة الأولى يصنع الشارع العربي الحدث، ويصبح الغضب الفوضوي هو المحرك الذي يصعب التنبؤ بالمدى الذي ستصل إليها حممه. هذا لا يعني أن الأيدي الخارجية لا تحاول أن تعبث بالمشهد العربي عموما، والسوري خصوصا، لكن يعني أن العبثية الداخلية صارت من الجموح بحيث يتعذر كبحها، أو التنبؤ بمستويات جنونها.