آية الله ولحظة بيرل هاربر

TT

«انتهت» الزعامة العالمية للولايات المتحدة، وباتت الرأسمالية «على شفا الانهيار»، وحان الوقت للجمهورية الإسلامية لكي «تقود البشرية على مسار جديد».

تلك هي الرسالة التي كان أعلى قائدين في إيران يحاولان نشرها على المستويين المحلي والعالمي خلال الأسبوع الماضي؛ ففي داخل إيران، سافر «المرشد الأعلى»، علي خامنئي، إلى مدينة قم في سادس زيارة له خلال عام، من أجل دعم القاعدة الدينية للنظام التي بدأت تتضاءل.

ومسترجعا انتصارات الغزوات، تباهى خامنئي بأنه «على أعتاب لحظات انتصار جديدة أشبه بلحظات الانتصار في غزوتي بدر وخيبر».

وعلى بعد آلاف الأميال في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، أخذ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يتباهى بأن أميركا اللاتينية «التي كانت في ما مضى الفناء الخلفي للشيطان الأكبر الأميركي» على وشك أن تحتل «موقعا متقدما في الثورة العالمية» التي تقودها إيران.

وتعليقا على الزيارة، كتبت صحيفة «كيهان» الإيرانية اليومية تقول في مقالتها الافتتاحية يوم الثلاثاء: «اليوم، أصبحت أميركا اللاتينية هي الفناء الخلفي لإيران». لقد أصبح الوهم المتمثل في أن الولايات المتحدة باتت على وشك الانهيار وأن دورها الريادي قد بدأ يتحول إلى إيران موضوعا رئيسيا في الدعاية الخمينية، وأصبح محور النقاشات في المنتديات التي يشهد بعضها حضور مناهضين للولايات المتحدة من أوروبا والولايات المتحدة نفسها، كما أصبح هذا الوهم مادة خصبة للصحافة المملوكة للدولة في إيران.

وتقوم وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية كل يوم تقريبا بنشر مقابلات شخصية مع بعض «الخبراء الدوليين»، من أماكن بعيدة مثل روسيا وبوليفيا، مدعية أن أيام «الشيطان الأكبر» قد باتت معدودة.

ويدعي جنرالات الحرس الثوري الإيراني، ربما نتيجة لتأثرهم بمثل هؤلاء «الخبراء»، أنهم ينتظرون الفرصة المناسبة لكي «يلقنوا الولايات المتحدة درسا لن تنساه».

ونتيجة لهذا التصاعد في الغطرسة الخمينية، فقد اختفت إسرائيل من الدعاية الرسمية للكراهية، بعدما كانت عبارة «محو إسرائيل من على الخريطة» هي أضمن طريقة ووصفة سحرية لـ«أي وغد يبحث عن للشهرة ولو لفترة قصيرة».

واليوم، أصبحت إسرائيل عدوا تافها أو ضئيلا بالنسبة للإمبراطورية الخمينية القوية، بعدما ارتقى هؤلاء «الأوغاد» لدرجة أعلى وأصبحوا يتحدثون عن «محو الولايات المتحدة من على الخريطة».

وعلى الجانب الآخر، يقدم المسؤولون الأقل تأثرا بتلك الغطرسة تحليلا أكثر اعتدالا، حيث صرح وزير الخارجية على أكبر صالحي، على سبيل المثال، بأن الولايات المتحدة على وشك الخروج من الزعامة العالمية، ولذا فإن إيران ستتقاسم الزعامة العالمية مع دول أخرى، مثل الصين وروسيا، مشكلين بذلك «نظاما عالميا جديدا».

ويعمل مروجو الدعاية والإشاعات، الذين يتنكرون في قناع الأكاديميين، على بناء صناعة جديدة قائمة على الادعاءات بأن الولايات المتحدة قد أصبحت «نمرا من ورق» وأن أي شخص لديه قدر قليل من الشجاعة قادر على ليّ ذيله دون أن يناله أي عقاب.

وتحدثت الصحف الإيرانية عن الكيفية التي قامت بها الولايات المتحدة، تحت قيادة الرئيس أوباما، «بالفرار» من العراق واستعدادها «للفرار» من أفغانستان، كما نسجت الكثير من القصص حول حقيقة أن أوباما قد بعث بخطابات لخامنئي دون أن يتلقى أي رد عليها.

ولكن على أي حال، فإن الولايات المتحدة لديها بالتأكيد القدرة المالية على الدفاع عن مصالحها، حيث تقوم بإنفاق أكثر من 700 مليار دولار - وهو ما يصل تقريبا لإجمالي الناتج المحلي الإجمالي برمته لإيران - في مجال الدفاع، كما أن نفقات الجيش الأميركي تصل لضعف النفقات الإجمالية لكل من الصين وروسيا والهند واليابان والبرازيل وفرنسا والمملكة المتحدة مجتمعين.

وتعد البحرية الأميركية هي البحرية الوحيدة في العالم القادرة على العمل في جميع المحيطات. (قامت البحرية الأميركية، وليس قوارب الحرس الثوري الإيراني التي تغزو العالم، بإطلاق سراح بحارة إيرانيين كانوا محتجزين من قبل قراصنة صوماليين لمدة أشهر). إن قوة نيران الجزء الصغير الذي تنشره الولايات المتحدة من القوات الجوية والبحرية حول إيران والمناطق القريبة منها يفوق ما يسيطر عليه «المرشد الأعلى» بعدة مرات. ولذلك، فإن دخول إيران في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة سيكون قضية خاسرة، على أقل تقدير، كما أن افتراض أن الولايات المتحدة قد «انتهت» هو افتراض خاطئ أيضا، فمهما حدث، تظل الولايات المتحدة هي ثالث أكبر دولة في العالم من حيث المساحة وعدد السكان، كما أنها تمثل أكبر اقتصاد في العالم بناتج إجمالي يصل إلى 15 تريليون دولار، أي نحو ربع الناتج الإجمالي العالمي ككل.

ولم تصل الولايات المتحدة لهذه المكانة العالمية بفضل قوتها الاقتصادية والعسكرية فحسب، ولكنها ظلت المنارة الثقافية والسياسية التي تجذب الناس من مختلف أرجاء المعمورة على مدار أكثر من قرن من الزمان.

وفي الوقت الذي لا يوجد فيه أميركي واحد يريد الهجرة إلى إيران، هناك أعداد غفيرة من الإيرانيين في قنصليات الولايات المتحدة في دبي وإسطنبول يريدون الحصول على تأشيرة للدخول للأراضي الأميركية. ولا يندفع الأميركيون لشراء الريال الإيراني الذي فقد 50 في المائة من قيمته مقابل الدولار خلال الأشهر القليلة الماضية.

وقبل أن يصل الملالي للسلطة في إيران، كان الدولار الأميركي يعادل 70 ريالا إيرانيا، ولكن الأسبوع الماضي أصبح الدولار يعادل 18000 ريال، في الوقت الذي يصطف فيه الإيرانيون لشراء الدولار.

الاعتماد على استراتيجية عداء الولايات المتحدة هي استراتيجية غير حكيمة وستؤدي إلى نتيجة عكسية يقتل بها الإيرانيون أنفسهم في نهاية المطاف، ويزخر التاريخ بالعديد من الأمثلة التي شهدت تحطم الأحلام القائمة على مناهضة الولايات المتحدة، مثل هتلر الذي تنبأ في عهده بـ «نهاية الولايات المتحدة» وقدوم «زعامة الجنس الآري على الساحة العالمية»، كما تغنى العسكريون اليابانيون بـ«نهاية أميركا»، وانحط ستالين ومن جاء بعده بالماركسية إلى عبادة المناهضة الأميركية. وكان ماو تسي تونغ هو أول من استخدم مصطلح «نمر من ورق» لوصف الولايات المتحدة. وقد اعتمد طغاة أكثر ابتذالا مثل صدام حسين ومعمر القذافي على مناهضة الولايات المتحدة.

وفي الواقع، يعد نموذج الخميني نموذجا شاذا، لأن الشعب الإيراني غير مناهض للولايات المتحدة، حيث أثبتت استطلاعات الرأي على مدى عقود أن الولايات المتحدة محبوبة في إيران بشكل أكبر منه في فرنسا أو حتى بريطانيا. إن الوهم المتمثل في أن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها قد دفع بعض الفصائل المولعة بالقتال للحث على الدخول في مواجهة عسكرية مع «الشيطان الأكبر»، وتهديد الحرس الثوري الإيراني بغلق مضيق هرمز ما هو إلا استفزاز متعمد. في الواقع، تمثل مثل هذه التحركات خطورة كبيرة على إيران وقد تؤدي إلى نهاية النظام، لأن هذه الاستفزازات قد تؤدي إلى لحظة بيرل هاربر، وليس غزوة بدر أو خيبر، وهو ما قد يدفع بالشعب الأميركي لدعم عمل عسكري ضد إيران. وقد يدفع الإفلاس الفكري لخامنئي إيران نحو الحرب.