ديمقراطية الشرب من البحر

TT

تطوران في الأيام الماضية، أفضل مشاركة قراء «الشرق الأوسط» في الاستفادة من أبعادهما الديمقراطية والقانونية، في وقت مناسب للحديث عن الديمقراطية.

الأول حادثة خريجة جامعية تتلقى إعانة البطالة (معونة البحث عن عمل). منذ تخرجها ببكالوريوس الجيولوجيا في جامعة برمنغهام في العام الماضي؛ كانت تعمل تطوعا - بلا مقابل - لاكتساب الخبرة العملية في متحف تاريخ الأقلام وأدوات الكتابة.

المكتب المحلي لوزارة العمل والمعاشات، هددها بقطع الإعانة إذا رفضت العمل بلا مقابل، كفترة تدريب لمدة أسبوعين في محل تجاري، لاكتساب خبرة «وضع البضاعة على الأرفف».

غضبت الخريجة الجامعية، وهددت بمقاضاة وزير العمل والمعاشات، لأن القرار إضاعة مجهود دراسة جامعية في الجيولوجيا، وانتهاك لحقوقها الإنسانية بإرغامها على مزاولة ما لا تريد.. محاميها أضاف مخالفة أخرى؛ سياسة الوزارة «لتشجيع العاطلين لفترة طويلة على العودة إلى العمل» بالتهديد بحرمانهم من الإعانة المادية، إذا رفضوا توجيهات مكتب العمل المحلي، غير دستورية.

السبب الذي وضعه المحامي في حيثيات الإخطار الذي تسلمه الوزير برفع الأمر للقضاء أن هذه السياسة الجديدة اتخذتها الحكومة دون عرضها على البرلمان. العبارة الأخيرة دفعت الوزير فورا إلى الاعتذار للخريجة، وإيقاف كل خطابات التهديد لمن هم في وضعها.

فمسألة إصدار قانون أو تعديل سياسة حكومية، تمر بمراحل معقدة في مجلسي البرلمان، وقراءات في لجان وتصويت، والأمر يستغرق سنوات. وهذا يقودنا إلى التطور الثاني، وهو هزيمة حكومة الائتلاف (التي تتمتع بأغلبية برلمانية مريحة في المجلسين) في مجلس اللوردات الذي صوت برفض مشروع قرار الحكومة الذي أصدره مجلس العموم بتعديل الإعانات الاجتماعية.

لا يصبح قرار مجلسي البرلمان قانونا Act نافذا إلا بعد رفعه لجلالة الملكة للتوقيع، وهذا لا يتم إلا بعد موافقة مجلس اللوردات عليه.

مشروع القرار الأخير يهدف لتوفير بضعة مليارات من ميزانية الشؤون الاجتماعية، التي توزع إعانات على مئات الآلاف؛ سواء من المعوقين، العاجزين عن العمل أو مرضى السرطان المزمن.

الحكومة تريد فحص قدراتهم المادية means - testing ومن له مدخرات، أو عنده وسائل مادية أخرى تقطع عنه الإعانة.

اللوردات والبارونات من الجنسين، لأنهم غير منتخبين، وبعضهم ينتمون للحزبين الحاكمين في الائتلاف، لا يعملون حسابا للمصلحة الحزبية عند مناقشة مشاريع القوانين، أخضعوا القرار للقراءة فقرة فقرة، وكل جملة وكلمة ونقطة وفاصلة، خضعت للقراءة وللتصويت لإعادة الصياغة، إذا كان هناك التباس في المعنى قد يجد فيه البيروقراطيون حجة قانونية لإنقاص مستحقات إعانة البطالة. وكانت النتيجة رفض اللوردات للقانون برمته، وإعادته جملة إلى مجلس العموم لإعادة صياغته بطريقة يراها اللوردات عادلة.

الحكايتان للتذكير بأن النظام الديمقراطي لا يضع أحدا فوق القانون، ويمنع الوزير، أو الحكومة، أو رئيسها من إصدار لوائح أو انتهاج سياسة قد تؤثر، ولو على فرد واحد (كحالة المدموزيل خريجة الجيولوجيا) إلا وفق قانون يصدره البرلمان، حسب التقاليد الدستورية لصدور القوانين.

قارن ذلك بأحداث غيرت تاريخ مصر، والمنطقة، وتسبب بعضها في حروب راح ضحيتها الآلاف وضياع بلدان وأراض، ولم يسمع البرلمان بها إلا من التلفزيون أو في خطاب الرئيس الذي لم ينتخبه أحد.

تحويل مصر من مملكة إلى جمهورية عام 1953 أعلنه مجلس الضباط الأحرار (الذي استولى على الحكم بانقلاب غير شرعي، ولم يسجل التاريخ مظاهرة واحدة قبل 1952 تطالب بإسقاط الملكية والتحول إلى جمهورية) برئاسة اللواء محمد نجيب في الإذاعة، وليس في البرلمان.

تمزيق أمة وادي النيل بفصل مصر عن السودان عام 1955 ارتكبه ضباط انقلاب يوليو - قاد الحركة الصاغ (ميجور) صلاح سالم - بلا أي مناقشات بين ممثلي مصر والسودان.

لم يسمع المصريون، سواء مفكرون، أو صحافيون، أو حتى وزراء إلا من الراديو بالقرار الفردي للكولونيل جمال عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس للملاحة البحرية (وهو انتهاك لقانوني تكوين الشركات والتجارة المصريين، ولاتفاقية الدولة المصرية مع حملة الأسهم النافذة المفعول حتى عام 1964)، وما تسبب من حرب أضرت بمصر وعلاقاتها التجارية والسياسية.

كذلك فوجئ مجلس الأمة (البرلمان المصري) بمعاهدة الوحدة مع سوريا، عام 1958، وإلغاء اسم مصر عند تأسيس فيدرالية جديدة غيرت اسم المواطن المصري إلى «جمهوري عربي متحد» رغم أنفه وبلا استشارته مقدما.

أما الحرب المأساوية؛ بإرسال القوات المصرية إلى اليمن عام 1962، وقصف الطيران المصري لقرى اليمن، وسقوط آلاف الضحايا من الجنود المصريين والمدنيين اليمنيين (ناهيك عن الإضرار الجسيم بالعلاقات التاريخية المصرية - السعودية كمحور قيادي في المنطقة منذ تأسيس الجامعة العربية في أنشاص عام 1946 بمبادرة مصرية - سعودية، بعد زيارة المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود للمرحوم الملك فاروق الأول)؛ فقد شنها الكولونيل عبد الناصر بقرار ديكتاتوري فردي، كعادته، دون أي مناقشات في البرلمان المصري، وكأن مجلس الأمة تحول إلى خاتم مطاطي وساحة مهرجان المصفقين للزعيم الأوحد، بعد إنشاء الاتحاد الاشتراكي (الحزب الوطني الديمقراطي في عهدي أنور السادات وحسني مبارك) كقاعدة لديكتاتورية الحزب الواحد، الذي كانت عضويته شرطا لانضمام المواطن المصري لاتحاد عمالي أو مهني أو حتى حصوله على وظيفة.

أما القرار الأخطر، الذي غير خريطة الشرق الأوسط جغرافيا وسياسيا وديموغرافيا، وزرع بذور المنظمات الإرهابية، فتم خارج مجلس الأمة والبرلمان. المقصود حرب 1967 (النكسة في لغة إعادة «هيكلة» البروباغندا في الديكتاتورية الناصرية).

البداية كانت مناوشات عسكرية على الحدود؛ بمحاولات من نظام البعث السوري (بلا قرار أو مناقشات برلمانية في سوريا) بتحويل الروافد المائية بعيدا عن إسرائيل (خرقا للقانون الدولي)، ثم إغلاق الكولونيل عبد الناصر لخليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية (خرقا لقانون حرية الملاحة في المياه الدولية - كما أن الحصار في القانون الدولي بمثابة إعلان الحرب رسميا)، وطرد مراقبي الأمم المتحدة المشرفين على اتفاقيتي هدنة 1949 و1956 من سيناء دون مناقشة أو إخطار البرلمان المصري - أو حتى إعلان «الرئيس» لقراريه أمام النواب المنتخبين (ولو من باب المجاملة) في البرلمان، بدلا من المؤتمر الصحافي الشهير في 18 مايو (أيار) 1967، الذي رد فيه الديكتاتور الراحل على سؤال مراسل «إي بي سي» الأميركية: «أميركا تروح تشرب من البحر، ولو موش عاجبها البحر الأبيض تشرب من البحر الأحمر»، والذي شرب المر كان المصريين وشعوب المنطقة. وحتى قرار استقالته كان في التلفزيون وليس أمام نواب الأمة!

ترى ماذا كانت خريطة المنطقة واقتصاديات بلدانها تبدو اليوم لو نوقشت بعض هذه القرارات في البرلمانيات، وصوتت برفض غير الحكيم منها؟