تطهر من الأوهام أم زيادة الآثام

TT

على مدى ثلاثة أيام، عقد المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت ندوته السنوية، في إطار دورة مهرجان القرين الثقافي الثامنة عشرة، وقد خصصت هذه الندوة الفكرية لما يتوقع أي قارئ فطن أن تخصص له؛ «الواقع العربي الجديد»، أخذا بمقياسين؛ الأول سقف الحريات في الكويت، والثاني تزامنها مع حملة انتخابية ساخنة، فخصصت الندوة في البحث في أمور الساعة، وهي أحداث الربيع العربي وتجلياته غير المحسومة حتى اليوم.

ضمت الندوة متحدثين ومعلقين تقريبا من معظم الدول العربية، من التي أصابها الربيع، والتي تنتظر أو تعتقد أنها تخطته، من المشرق حتى المغرب. بعض الحضور من المشاركين كان إما مشاركا في التحرك الربيعي، وإما في مسؤولية ما بعد الربيع، من الوزراء السابقين الذين خدموا مباشرة في حكومات لحقت الربيع في بلدهم، أو حاليين، وآخرين من المتابعين النشطين لهذا التحول الكبير وغير المسبوق.

من هذا التوصيف الكلي السابق، يمكن للقارئ أن يتنبأ بما يمكن أن تشهده المناقشات من حيوية بين الممارسين والمنظرين، والحالمين والواقعيين. لعلي أوجز الكثير من القضايا التي طرحت في ثلاثة مسارات، أرى أنها قد أخذت السبق في الاهتمام، دون التقليل بالطبع من عدد آخر من المواضيع التي تم نقاشها.

القضية الأولى تصنيف نتائج ربيع العرب؛ انقسم المشاركون حولها إلى مدرستين؛ الأولى متفائلة، والثانية متشائمة، إلا أن أسباب التفاؤل والتشاؤم اختلفت. المتشائم قال إن ما يحدث للإقليم العربي ليس جديدا على مسيرة التاريخ العالمي، وأقرب ما يمكن مقارنته به، هو الثورات الأوروبية التي اجتاحت ممالك أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، حيث قلبت الأنظمة وقتها رأسا على عقب، إلا أن تلك الفورة من ربيع أوروبا سرعان ما تحولت إلى أنظمة محافظة وشرسة، استبيحت في مُدنها الدماء، وأثقلت المنطقة الأوروبية بحروب تركت ندوبا غائرة في تاريخها، ويتوقع من يرى ذلك أن المنظومة العربية سوف تشهد الدخول في نفق مظلم، تسوده حكومات متسلطة قمعية ترى أنها تمتلك الحقيقة وحدها، وتهمش القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى، خاصة إن هي ارتكنت إلى مقولات «الإسلام السياسي»، الذي يحول المألوف إلى مخيف. ومن المتشائمين من قال إن القادم قد ظهرت تباشيره بالفعل، من خلال نتائج الانتخابات التونسية والمصرية التي وجد الإسلام السياسي - بألوانه المختلفة - نفسه في أغلبية شبه مطلقة من جرائها سوف يفرض أجندته على المجتمع، وتباشيره تنادي بعضهم الآن بخطاب مهدد، وهي أجندة لها علاقة بالحلم، ولكن ليس لها علاقة بالواقع، مما سينتج عنه حزمة أزمات مختلفة، تؤدي إلى تفاقم التردي الاقتصادي، والهروب بعدها إلى قمع منظم.

المدرسة الثانية المتفائلة قال البعض فيها: حتى لو حدث ذلك، فإن الشعوب العربية قد اكتشفت القوة الكامنة فيها، التي استطاعت أن تتخلص من الأنظمة السابقة القمعية؛ من خلال الحشد الهائل في الميادين العامة والاعتصامات، وبالتالي فإن أي انحراف عن تحقيق مطالب الجماهير في الحرية، سيعيد تلك الجماهير إلى الميادين مرة أخرى لتمنع الانتقاص من الحريات.

واضح أن التصور الأخير له علاقة في نظري بالتمنيات أكثر مما له علاقة بالواقع، فالقبض على السلطة في مجتمع يفتقر إلى الحد الأدنى من التنظيم خارجها لا يستطيع كل فترة زمنية أن يحشد الملايين للإطاحة بأنظمة، خاصة تلك التي ترى أنها مفوضة في الحكم من السماء.

القضية الثانية هي الموضوع المصري، الذي اعتقد كثير من حضور الندوة أنه مركزي في صيرورة المستقبل العربي، البعض من السياسيين المصريين الحاضرين يرى أن تقاعس العرب، وخاصة أهل الخليج، أو بالأحرى حكوماتهم، عن مد يد المساعدة المالية العاجلة إلى النظام المصري القائم، قد يلجئ الحكم المقبل فيها إلى أخذ موقف عدائي من دول الخليج، وإن تردد دول الخليج في المساعدة هو «شرطها بعدم محاكمة مبارك»!! وعلى الرغم من تهافت الحجة الأخيرة، فإن واقع الأمر يقول إن هناك تيارا ينمو في مصر يرى أن على مصر أن تظهر «العين الحمراء» لدول الخليج، بسبب تقاعسها عن مد يد المساعدة لاقتصاد مصري يغطس أكثر وأكثر في العجو، إلى درجة تناقص سريع في سعر الصرف للجنيه المصري.

طبعا الأمر ذاك يتم تناوله باقتراح خطوات عملية من البعض في أن تسارع مصر إلى التوجه إلى إيران للمساعدة الاقتصادية، وربما الفنية، أولا لأن شهية إيران مفتوحة لتلك المساعدة، وترغب في الحصول على موقع قدم سياسي، وثانيا أنه صحيح أن مصر ليست شيعية، إلا أن مسلميها يُجلّون آل البيت، وتاريخ ذلك غائص منذ الحكم الفاطمي القديم، وبيّن في مظاهر التدين المصري العام، حتى إن للإمام الخميني مقولة صرح بها في أول الثورة الإيرانية مع الأستاذ هيكل، بأن أهل مصر أقرب إلى التشيع!

كلتا الإشارتين تقول إن البعض يفكر في الحلول السريعة القائمة على التمويل الخارجي، المستند إلى العاطفة قبل التقدير السياسي للأمور، حقيقة التردد النسبي الخليجي هو الانتظار حتى تتبين التوجهات العامة المسنودة شعبيا، من أجل معرفة مع من يمكن الحديث، ومع من يمكن الاتفاق في مصر الجديدة، أما فكرة العلاقة الخليجية - المصرية فهي في تقدير كثيرين من العقلاء أساسية لاستقرار الإقليم بكامله، كما أنها ليست عفوية أو موسمية، بل استراتيجية إلى حد بعيد.

أما القضية الثالثة، التي استحوذت على النقاش، فهي العلاقة مع إسرائيل، وهنا تتشعب الرؤى، فالحكم بنكهة إسلامية في مصر سوف يضع ذلك الحكم في مواجهة استحقاقات قد يذهب إليها طوعا أو قد تجره إليها إسرائيل، أو حليف قريب، من مثل حماس في غزة، التي هي امتداد لحكم إسلامي من نوع ما!

فأي حكومة مصرية مشبعة بنكهة الإسلام السياسي، ستجعل إسرائيل تقوم مباشرة بشدها إلى اختبار قاس، عن طريق ربما التحرش بغزة أو غيرها من الحدود العربية الملتهبة، فإن استجابت بقوة الحماس المتكئ على شعاراتها، تم تحجيمها قبل أن تنمو، وإن صرفت النظر تحت أعذار كثيرة، تقلص تلقائيا الحماس لها في الداخل.

في الوقت الذي يرى فيه آخرون أن إسرائيل هي الأكثر خوفا الآن من أي وقت مضى بعد الربيع العربي، ويرسمون سيناريو «يوم القيامة الإسرائيلي» بأن يقرر ملايين العرب التوجه إلى الحدود الإسرائيلية في وقت ما وساعة محددة ومن الأطراف الأربعة المحيطة، كما فعلوا محليا في ميادينهم، ترى (يتساءل القائلون بهذا السيناريو) هل تستطيع إسرائيل تبرير قتل مليون عربي على حدودها أمام العالم، أي أن هذا السيناريو ينقل الميادين التي شهدت الربيع العربي إلى ميدان إسرائيل! طبعا تجربة من هذا النوع تمت على خجل في الجولان منذ أشهر، في محاولة للفت الأنظار بعيدا عما يحصل في سوريا، ولكنها لم تأتِ بالثمار التي كانت مرجوة، إلا أنه سيناريو يعتقد البعض بإمكان نجاحه في وقت ما في المستقبل، حتى لو كان ضربا من الخيال اليوم.

عرضت لبعض القضايا التي رأيتها شخصيا جوهرية في النقاش الكويتي الساخن في الجو الشتوي البارد، وربما آخرون في الندوة تثير خيالهم قضايا أخرى هي من وجهة نظرهم الأهم، إلا أن الفكرة الرئيسية هي أن عالم الربيع العربي قد يكون فجر قضايا أكثر مما أخمد من مشكلات. وسيظل النقاش قائما ومحتدما.

آخر الكلام

حديث لافت قاله أحد الزملاء في الندوة تعليقا على الثورات في الجمهوريات من جهة، والتحولات في الملكيات من جهة أخرى: إن الخيار محدود للعرب، فإما الخروج على الحكم من أجل الحرية أو الخروج معه إلى الحرية!