السلامة لصاحب «القلب العجيب»

TT

عندما جاءنا النبأ الصاعق عبر صحيفة «الشرق الأوسط» حول عملية جراحية ستجرى للدكتور عبد العزيز خوجه وزير الثقافة والإعلام، جزعنا على هذا الدبلوماسي الراقي والشاعر المتألق الذي بعدما أتعبت قلبه كثير التعب أمزجة أهل السياسة والرموز الحزبية في لبنان لكنه تعامل مع تداعيات الأزمة ورموز الأمزجة تعامل الطبيب النفسي المنفذ بكل الدقة والرقة توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان اختياره وزيرا للثقافة والإعلام بعد تكريم له بتسميته «سفير أول».

ولقد وجدت نفسي بعد الدعاء إلى رب العالمين أن يحيط عبد العزيز خوجه بعنايته وأن تراعي أدوات الجراح شرايين هذا «القلب العجيب» حسب توصيف أبو محمد له، الذي يتحمل أكثر مما يحتمل، أنأى من باب مهابة الحالة الصحية عن المواقف والرؤى السياسية للأخ أبو محمد، وأستحضر عبد العزيز خوجه الشاعر منقبا بين أبيات قصائده الجميلة فأراه يلخص شجون قلبه على أنواعها بالقول: «لا تغمضي عينيك عني تلكما بحرا صفاء.. هذا بديع الحسن جمع ما يشاء لمن يشاء.. كيف التقى البدر المنير مع الصباح، مع المساء.. لا بد يا قلبي تقر بأنها: أحلى النساء». كما أراه يقول «وسألت القلب: ما هذا الشجن.. ثار جمرا في ضلوعي.. وسكن». ويقول كذلك «أقبل الحسن دلالا فانبرى الشوق الدفين.. وتلظى القلب نارا وبدا الحب المبين»، و«تمرد شوقي علي فضيع مني صوابي.. وفاضت شجوني بقلبي وحن إليك شبابي.. ويوم أراك يرق فؤادي ويصفو شعوري ويهفو ودادي»، و«يا من هواك أنيني رفقا بقلبي الحزين.. بالله لا تتركيني فاضت بقلبي شجوني»، و«يا أحلى حب في الدنيا حبي زوبعة تنطلق.. تقتلع القلب وتتركه كالطير ذبيحا يصطفق»، و«أحبك حبا يفوق الغرام ويسمو بعيدا وراء الستر.. فمنك عرفت أصوغ الحروف لهيبا يحرق قلب البشر.. وما كل قلب كقلبي العجيب يلاقي الهناء بنار سقر»، و«أغمضت عيني كي يراك فؤادي فسمعت آهاتي عليك تنادي»، و«تعب الهوى أم إن قلبي من هواه قد تعب؟»، و«ماذا جرى يا أضلعي للخافق الواهي العتيق؟»، و«التقينا يا فؤادي.. وكفانا ما لقينا.. قدري في الحب أن أحيا حزينا»، و«ليس عندي الآن قلب، بل جراح.. وبقايا طائر دامي الجناح»، و«يا بنت لبنان المرصع بالألق.. قلبي الذي يصبو إليك قد احترق. قيدت قلبي في الهوى لكن خفق.. لما رأى بحريك حن إلى الغرق»، و«هذا الفؤاد الصب أرهقه المسير.. حيران لا يدري إلى أين المصير.. يا خافقي لم يبق في الأغصان إلا بعض أوراق الخريف»، و«أهرب منك ولكن إليك.. وأشطر قلبي إلى خافقين.. جذبت الفؤاد لدرب الغرام.. فصرت عليه من السالكين»، و«كأن الدمع ينبوع بقلبي.. إذا ما فاز لم يصل العيونا»، و«يمضي بنا العمر يا قلب، جدبا فلا العشب ينمو ولا الزرع يرجو هطول المطر.. كأن السماء جفاها السحاب وجف على الأرض ماء البحر»، و«هذا الشتاء مؤبد بدمي وهذا القلب يسكن في اليباب»، و«بين قلبي وحروفي جف ترتيل النزيف»، و«كن مثل تلك القوس يا قلبي.. ضياء أو سرابا سرمدا»، و«أكنت تسر برؤية دمعي جداول تجري بخدي الجريح.. لتترك فكري أسير الظنون وتترك قلبي كطير ذبيح؟»، و«أقلب خافقي خلف المدى حيران في كف الضياع.. كأن القلب رف الجفن خفقا في مدارات الشراع»، و«الأغاني في فؤادي باليات.. وضلوعي في سكون تتألم.. أيها الحب ترفق بفؤادي.. ليس في صدري حنين يتكلم»، و«أنت في صدري، ولكن لست مني يا فؤادي»، و«يا قلب لا هرب فالسهم قد نشب.. يا قلب تحترق لا لوم أو عتب»، و«آه من قلبي ومني شوقه يحرق أمني»، و«تهت في الإبحار يا قلبي طويلا وشراعي أخطأ الأفق الجميلا»، و«هذا قدر القلب المخبوء على الزهر.. يتفتت من لمسة يتحرق من همسة يتناثر شوقا من دفقة عطر»، و«حان الرحيل فهل أودعها يا قلب قل يا أدمعي انهمري»، و«إني لأعرف والفؤاد بصير.. أن الهوى قدر إليه أسير.. لبنان يا أهداب فاتنة لها قلبي يصعق عاشقا ويمور.. بيروت يا أبهى الحسان ترفقي.. قلبي بك الولهان والمبهور.. أوغلت في حبين سحرك والصبا.. وتركت قلبي للشباك يسير»، و«لبنان في قلبنا نار تؤرقنا.. خوفا على بلد قد عزه الأزل».

لكن الذي يبهرنا في صاحب «القلب العجيب» ليس فقط القلب الذي يخفق غزلا ومشاعر وأحاسيس في سنوات التأمل والهوى على نحو بعض ما نلمسه في أبيات له ثبتناها في سطور سابقة، وإنما كيف يوظف خافقه في تكوينات تجمع بين المفردات الصوفية وأكاد أقول الابتهالية والرثائية مثل خشوعياته في حضرة مكة المكرمة وترك قلبه هنا هو الذي يخاطب ويرسم في المشهد لوحة لم نألف مثل هذا الرونق الذي اتسمت به بعض أبياته، ومنها «إيه يا مكة الهدى للبرايا وجذوري في روضك المعطار.. إيه يا كعبتي أطوف نحوك بروحي صبا بعيد المزار.. يا رفاقي في حب طه خذوني.. فربيع القلوب في الأذكار.. يا رفاقي من حل في روض طه بشروه بحوزة الأوطار». كما أن قلبه كان الذي يناجي رب العالمين قبل لسانه من خلال القول «أتيتك يا رب عطشان حبا لتشفي غليلي وتطفي حريقي.. ومن لي سواك يدل فؤادي.. ويهدي الشريد لنور الطريق»؟

ويبقى استكمالا لاستحضاري بعض خفقات صاحب «القلب العجيب» عبد العزيز خوجه تساؤل له صفة الاستغراب: كيف أن أشعار هذا المثلث العلمي الشعري الدبلوماسي السياسي لم يصدح بها الطيف المحترم من أصحاب الأصوات الجميلة؟.. مع ملاحظة أن كوكب الشرق أم كلثوم لو كانت بيننا لكانت سترى في بعض قصائد عبد العزيز خوجه أنها ما تحتاج إليه حنجرتها الذهبية فتغدو ماسية.. وبالمقارنة بين بعض أبيات أوردناها وقصائد غردت بها كوكب الشرق يتأكد لنا ذلك. كما أن التساؤل الأخير ونحن نعيش مرحلة ثقافة إسلامية سياسية مستجدة في معظم الدول العربية وستشمل ولا بد تراجع موجة ما هو هابط من الغناء، هو: هل يا ترى سيبادر بعض كبار الفنانين المحترمين إلى تحويل قصيدة «سراج الأكوان» ذات الستة والستين بيتا، كأنها ست وستون وردة مقدسة فواحة على مدى الدهر، إلى عمل فني؟

وحيث إن الأمة تعيش حقبة بالغة الخطورة وتبدو معالمها وكأن الزمن العربي «المايل» أصلا سيتحول في لحظة غفلة من الذين يحكمون لكن لا يتعظون إلى كوارث، بدليل ما هو حاصل في سوريا والعراق واليمن حتى الآن، فإنني أختم هذا الاستحضار لبعض أشعار عبد العزيز خوجه بتسجيل بضعة أبيات تعكس بمفردات رثائية حال الأمة، هي: «ظلمات لجية الظلمات.. أي ماض يا أمتي؟.. أي آت؟.. أي حال يا أمتي نحن فيه.. أي وحل طما على الخطوات.. كيف صرنا مليون ألف فريق.. فأضعناك في هوى النزعات».

من كان هذا قلبه.. أبيض بنصاعة ثلج لبنان، وعجيب، على حد توصيفه هو له، جامع بين الرقة والعذوبة والنفحة الإيمانية، ندعو له بالسلامة وسرعة التعافي لكي يستأنف رحلة الخفقان والأسفار في ما بعد البدء وما قبل المنتهى.