هل سقط رهان فوضى دول «الربيع»؟

TT

مضى قرابة العام على سقوط نظامين قويين راسخين، بن علي وحسني مبارك، وكانت مراهنة خصوم «الربيع العربي» - وبعضهم مخلص في ما يقول - أن الاستقرار الأمني هو الضحية الكبرى لهذا الحراك الخطير، وأن الثورة لا تعدو أن تكون عملية جراحية بالغة الخطورة يخشى بعدها أن يفقد جسد الوطن عافيته الكاملة، أو في أحسن الأحوال يظل بقية حياته منهك القوى كثير العلل والأمراض مثلما حدث في النموذجين الصومالي والعراقي.

من خلال الوقائع على الأرض وبلغة الأرقام نقول إن الرهان على الفوضى قد سقط خلال الاثني عشر شهرا التي أعقبت الثورتين المصرية والتونسية، والوضع مرشح للاستمرار لأن المرحلة الخطرة والحرجة هي التي تعقب الثورات، تماما كما في العمليات الجراحية.. صحيح أن الوضع الأمني بعد اندلاع هاتين الثورتين يتسم بالهشاشة، وأن القبضة الأمنية، خاصة في مصر، ارتخت قليلا وانتشرت بعض الحوادث المخلة بالأمن، ولكن الصحيح أيضا أن الدولتين لم تنزلقا إلى درجة الفوضى، وتميز المشهد الأمني بالتماسك، والتماسك أقل درجة من الاستقرار لكنه بالتأكيد أرفع كثيرا من الفوضى. وحتى تتضح الصورة قارن الوضع بين مصر وتونس من جهة، وبين العراق والصومال من جهة أخرى، حيث سيطرة الحكومة في النموذجين الأولين على كامل تراب الدولتين، والعكس صحيح مع النموذجين الأخيرين، فبالكاد يسيطران على العاصمة الحكومية وعدد من المؤسسات المهمة في الدولة، ولعل عدم قدرة حكومة المالكي على القبض على الهاشمي وتوسلاتها لـ«داخلية» كردستان بتسليمه ورفض الثانية أوضح مثال، وهذا ما لا يمكن تخيل حدوث مثله في تونس أو مصر.

ولا أدل على هذا «التماسك» الأمني من أن العملية الانتخابية في كل من مصر وتونس حققتا نجاحا ملحوظا، بل إنها في مصر كانت مثار إعجاب العالم لأن بعض الأحداث الخطيرة جرت قبيل الانتخابات (وربما بفعل فاعل) لتقويض العملية الانتخابية، كمظاهرة ميدان التحرير التي كانت بلا هوية ولا راية، وتطويق وزارة الداخلية باعتصام غريب، ومع ذلك حسم المصريون أمرهم وقرروا توجيه ضربة قاضية لمن لا يريد لمصر أن تنعتق من حكم الاستبداد.

وحين مرت الأمور في مصر وتونس بعد الإطاحة بالنظامين المصري والتونسي بسلام، وإن كان هشا، انتقل المراهنون على انتشار الفوضى بعد الثورات العربية إلى ليبيا، وقالوا إن ليبيا مختلفة فالنظام في الحالتين المصرية والتونسية لم يسقط وإنما سقط الرئيس، وأما ليبيا فقد أسقط الثوار النظام ورئيسه ومؤسساته واجتثوه من أصوله، فلا جيش ولا أمن ولا نظام، إضافة إلى العنصر القبلي في المعادلة الليبية والذي يكاد يختفي في الحالتين المصرية والتونسية.. وعليه فليس من السهولة السيطرة على ليبيا بعد حكم ديكتاتوري قوي انهار نظامه وأمنه وكل مؤسسات الدولة، وستندلع في البلاد حرب أهلية فور سقوط نظام القذافي.. وسقط نظام القذافي وسقط معه الرهان، وتماسك الاستقرار بدرجة معقولة بالنظر إلى العوامل السابقة، وبدأ برنامج لدمج الثوار في الجيش الوطني، وأما الحوادث الأمنية وبعض الاشتباكات، وإن كنا نسمع بها أحيانا، فإنها لم تصل إلى درجة الظاهرة ويجري تطويقها والسيطرة عليها بصورة ملحوظة.

الثورة عملية جراحية كبيرة، لا يمكن أن نتصور أن تنهض البلاد ويعود الاستقرار إلى وضعه الطبيعي في غضون أشهر، ولا حتى سنوات قليلة، تماما كما لا نتصور أن يقفز مريض من سريره معافى بعيد عملية جراحية كبيرة ناجحة في قلبه.

[email protected]